صيغة صرفية فادحة .. فاجتنبوها”!

صيغة صرفية فادحة

من كوارث الدهر في وسائل الإعلام في زماننا أن يتولى ترجمة الأخبار وصياغتها أناس قليلو الخبرة في العربية، وربما أيضا في اللغات الأجنبية التي يترجمون عنها. وهم بهذا الضعف يقعون أسرى لتلك اللغات، فيُولّدون لنا صيغا غريبة لا تمت للعربية بصلة. ومن هذا الباب تركيب شائع تتداوله المواقع الإخبارية بلا حرج أو تساؤل، وهو كلمة “كارثيّ”.

وقبل أن أتحدث عن الكلمة وأحللها مبينا وجه مخالفتها لقواعد العربية، أودّ أن ألفت النظر إلى أن شيوع مثل هذه الكلمة ونظيراتها في الصحف والمواقع الإخبارية قد يُوهم بَعضنا بأنه لا غبار عليها، أو بأنها صحيحة، فيندفع إلى اتهام من يخطّئها بالتحامل وتضييق واسع اللغة. وردا لهذا الوهم أقول إنني أعرف أن من طبيعة اللغة، أي لغة، التغير وأنه من المستحيل الوقوف في سبيل هذا التغير. ولست لذلك ممن يرفضون لفظا، أو تركيبا لأن بعض كتب التصويب اللغوي نصت عليه، أو لأن معجما من المعاجم ذكر صيغة قديمة له. إذ إنني أؤسس رفضي دوما على خشيتي من أن يفضي شيوع اللفظ أو التركيب إلى بلبلة في الفهم، أو أن يكون فيه مخالفة لقاعدة أساسية من قواعد هيكل اللغة صرفا ونحوا. ومن هنا لا أقف أبدا ضد المفردات الأجنبية التي لا يوجد في لغتنا نظير لها، والتي قد تثري العربية.

ومن هنا أقول إن رفضي للتركيب التالي في هذه العناوين قائم على مخالفته الفجة لقواعد اللغة، كما سأبين.

بي بي سي عربي

سي إن إن

الأنباء الكويتية

وحتى نتعرف على القاعدة وعلى المخالفة دعوني أحلل هذا التركيب “كارثي”، فأقول:

إن التركيب في أصله ترجمة لإحدى كلمتين إنجليزيتين هما: (disastrous من disaster)، أو (catastrophic من catastrophe)

وهو يتكون من عنصرين:

  • اسم فاعل (كارِث)
  • ياء النَسَب المشددة (يّ)

وأصل الكلمة هو الفعل “كَرَثَ الأمرُ فلانا” أي ساءَه واشتدّ عليه. ومنه اشتق اسم الفاعل “كارث” و”كارثة” لوصف أي أمر “شديد أو شاق”.

فالصيغة التي بين أيدينا هنا هي صيغة (اسم فاعل)، وهي إحدى الصيغ الصرفية المشتقة من الفعل. فنقول “كارث” من “كرث”، كما نقول “كاتب” من “كتب”، و”ناصر” من “نصر”، و”عابر” من “عبر”، و”حارس” من “حرس”، و”طاعم” من “طعم”، إذا كان الفعل مكونا من ثلاثة أحرف.

وتستخدم صيغة “اسم الفاعل” في الكلام صفة، لوصف من نتحدث عنه أو ما نخبر عنه، فنقول: (هذا مهندس بارع في عمله)، و(هي باحثة معروفة في مجال العلوم)، و(الحياة في أيامنا صارمة)، و(نحن نمر بأزمة كارثة).

وكما تحل الصفة أحيانا محل الاسم الموصوف، مثل (الجميلة جاءت) بدلا من (الفتاة الجميلة جاءت)، يمكن أيضا أن تحل صيغة اسم الفاعل محل الاسم الذي تصفه. فنقول

  • (الكاتب في أيامنا لا يستطيع العيش مما يكتب)، بدلا من قولنا (فلان الكاتب لا يستطيع …)،
  • و(لا يُغفر للحارس إن نام خلال عمله)، بدلا من (لا يغفر لفلان الحارس …).

وهناك صلة وثيقة بين الفعل واسم الفاعل تتجاوز اشتراكهما في حروف الجذر، كما هو الحال بين (ك ت ب، وك ا ت ب)، و(ك ر ث، وك ا ر ث)، إلى دلالة الاثنين كليهما – الفعل واسم الفاعل – على الحدث. فعندما نقول: (كتب) فإننا نشير إلى وقوع حدَثٍ في الماضي، و(يكتب) تدل على حدثٍ يقع في الحاضر. وهذا هو الأمر نفسه حينما نستخدم صيغة (فاعل) من كتب فنقول: (كاتب). فإن صيغة اسم الفاعل تدل على وقوع حدث الكتابة من شخص ما. لكن هذا الحدث – في حالة اسم الفاعل – ليس مرتبطا بزمن واحد، ماض أو حاضر، كالفعل، بل إنه حدث متجدد، إذ أضحت الصفة، وهي الكتابة هنا، ملازمة له.

ولهذه الصلة الوثيقة بين الفعل والصيغ المشتقة منه، ومنها صيغة “اسم الفاعل” التي نتحدث هنا عنها، قال نحاة العربية إن في تلك الصيغ المشتقة، شيئا “من رائحة الفعل”. وهم لم يقولوا هذا اعتباطا، بل قالوه ليبرزوا العلاقة بين الفعل والصيغ المشتقة منه.

  • فحروف الجذر بينهما واحدة،
  • كلاهما يدل على الحدث،
  • كلاهما يؤثر فيما بعده من ألفاظ.

فالفعل له فاعل، ومفعول به، إذا كان متعديا. فنقول (يكتب سعيدٌ رسالةً طويلة). وكذلك لاسم الفاعل أيضا فاعل ومفعول به، فنقول (سعيدٌ كاتبٌ (هو) رسالةً). والفاعل هنا ضمير مستتر تقديره هو يعود على (سعيد) و(رسالةً) مفعول به.

وهنا يجب أن نتوقف لنقول إن فساد هذا التركيب “كارثي”، ومخالفته لقواعد الصرف العربي يقوم في المقام الأول على دلالة صيغة اسم الفاعل (كارث) على الحدث. ولا يمكن أبدا أن تضاف (ياء) النسب إلى الفعل، أو إلى ما فيه من رائحة الفعل، كاسم الفاعل مثلا. لأن هذه الياء لا تضاف إلا إلى الأسماء الجامدة، مثل مصر، وبحر، ودولة. ولا يمكن أن تضاف إلى اسم مشتق، مثل اسم الفاعل.

كما أننا عندما نضيف ياء النسب إلى كلمة، مثل مصر، فإن الكلمة المركبة (من الاسم + ياء النسب)، “مصريّ”، تصبح صفة، نستطيع أن نصف بها شخصا فنقول: “هذا جندي مصري”، أو مدينة فنقول: “مدينة الأسكندرية المصرية ممطرة في الشتاء”.

ولذلك لا نستطيع أن نضيف تلك الياء إلى صيغة اسم فاعل، مثل “كارث” – وهي في أصلها صفة تصف حالة شخص أو جماد كما بينا – لنحوّلها إلى صفة. فالصيغ المشتقة، كاسم الفاعل، هي صفة للاسم الذي تستخدم معه، وليست بحاجة إلى ياء النسب.

ومن هنا لا نستطيع مثلا أن نضيفها إلى (كاتب)، أو (حارس)، أو (لاعب)، أو (ماهر)، أو (عامل)، أو (فالح). فلا تجد في اللغة (كاتبيّ)، ولا (حارسيّ)، ولا (لاعبيّ)، ولا (ماهريّ)، ولا (عامليّ)، ولا (فالحيّ). لسببين: لدلالة صيغة (فاعل) على الحدث المتجدد، لأنها صيغة مشتقة، ولأن الصيغ المشتقة هي نفسها صفة للاسم الذي تستخدم معه، فلا يجوز إضافة ياء النسب إليها، لجعلها صفة.

وهنا قد يعترض معترض ببعض صيغ اسم الفاعل التي صارت علما (أي اسما لشخص ما، أو لهيئة)، مثل: (ناصر: ناصريّ الهوى)، و(حاتم: حاتميّ الكرم)، و(جامعة: جامعيّ أي يعمل في تلك الهيئة).

واسم الفاعل في تلك الحالة بعُد به الاستعمال عن صيغته الصرفية فأصبح علما، يشبه الاسم الجامد، وقد جوّز هذا إضافة ياء النسب إليه.

وأولى بنا بعد هذا التطواف أن نستخدم (فادح، أو مفجع) مثلا ترجمة لـ: (disastrous)، أو (catastrophic).

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.