أخطاء الترجمة: هل كل مألوف مفهوم؟

أخطاء الترجمة: هل المألوف مفهوم؟

الحديث عن الأخطاء التي ترتكب في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية لا يمر بلا اعتراض. 

فهناك من يريد قصر هذا الحديث على المتخصصين في الترجمة. والترجمة، أو ما يعرف في الإنجليزية بـ(Translation Studies)، وأحيانا بـ(Translatology) علم له أصوله ونظرياته.

وهذا صحيح، لكن هذا العلم وثيق الصلة بعلم اللغة (Linguistics) ولا ضير على من درس علم اللغة مثلي، ولديه قدر من المعرفة بلغة أجنبيه، خوض غمار الحديث عن أخطاء الترجمة، والتنبيه إلى بعضها من أجل صحة العربية. وهو إن لم يفعل مقصر.

”ألفة“ الخطأ لا تعني صحته

وهناك من يقول إن المعنى المراد في تعبير مثل ”قتل الرجل (بدم بارد)“، الذي نعده من أخطاء الترجمة، أصبح مفهوما لدى القارئ والسامع، فما الغضاضة في استخدامه؟

وفي هذا القول مغالطة. فمعنى هذا التعبير ”المشوه“ في رأيي ليس مفهوما، بل أصبح مألوفا. وشتان بين الفهم والألفة. فليس كل مألوف مفهوما. 

فمصطلحات ”حداثة“، أو ”علمانية“، أو ”شعبوية“ جد مألوفة في الصحف والكتابات، لكن هل هي مفهومة لدى الناس. أنا أزعم أننا لو سألنا عينة عشوائية من مئة شخص لما استطاع شرح معنى أي منها سوى حفنة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. 

وما يكتب الألفة لأخطاء الترجمة وغيرها من الأخطاء اللغة هو شيوعها في الصحافة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. فهي تتردد كل يوم، وتستخدم صباح مساء مع كثير من الأخبار.

فهل هناك خطر في ذلك؟

هناك خطران. 

غموض الأساليب

أولهما أننا أصبحنا نقرأ كتابات ومقالات يلفها الغموض في التعبير والأسلوب، لأن الأفكار والمفاهيم لدي كاتبيها ليست واضحة. وكثير من الكتَّاب هذه الأيام يحلو لهم الترفع على القراء بحشو مقالاتهم بتعبيرات ومصطلحات غريبة حتى يوهموا الناس أنهم ذوو ثقافة رفيعة.

وقد شرعت ذات مرة في قراءة كتاب عن ”البنيوية“ كتبه بالعربية أستاذ أكاديمي معروف، لكني لم أفهم شيئا منه. وأظن أن السبب هو عدم وضوح الأفكار والمفاهيم في ذهنه. وتركت الكتاب من أسف، آثرت أن أقرأ عن الموضوع في الإنجليزية حتى أفهم.

وهناك صحف عربية طلقتها طلاقا بائنا لأني لم أكن أفهم منها إلا القليل بسبب أسلوب الكتابة المُغرب الغامض، والكلمات والتعبيرات التي كنت أشعر أنها ليست من ”بنات“ ثقافتنا. 

صعوبة التواصل

أما الخطر الأكبر الآخر، الذي قد لا يدركه بعضنا، فهو أن تلك الكلمات، أو التعبيرات، أو المفاهيم المنقولة نقلا غير صحي من لغة أجنبية، أي أنها ترعرعت في ثقافة أخرى تختلف عن ثقافتنا، غالبا ما تكون غامضة في أذهان الناس. وإن ظل الغموض في الأذهان استحال التواصل باللغة.

فاللغة وسيلة تواصل بين البشر، وإن لم تكن المفاهيم واضحة تماما لدى المتكلمين لأدى ذلك إلى عرقلة التواصل بينهم. ولا شك أن من عواقب ذلك نشوء خلافات ومشكلات قد تفضي إلى ما هو أشق وأصعب. 

والأمم التي تحرز التقدم في حياتها، هي الأمم التي تكون الأفكار والمفاهيم واضحة في أذهان علمائها، وباحثيها وطلابها، ومن ثم شعوبها. وهي التي تستطيع بعد ذلك أن تبني على ذلك الوضوح في الفكر والمفاهيم فروضا ونظريات جديدة تختبرها، لتحقيق تقدم هنا وهناك في مجالات العلوم والمعرفة. 

وهذه القضية مرتبطة بمسألة التعريب وضرورة تدريس العلوم جميعا في جامعاتنا بلغتنا العربية، من أجل وضوح المفاهيم والأفكار. 

ولهذا حديث آخر.  

للمشاركة على :

2 Comments

  1. كلما تراجع الحرص المهني على جودة المحتوى، سنظل نعاني من مثل هذا النهج في التعامل مع النصوص. المحتوى العربي في امس الحاجة الى ثورة مهنية. لكنى اوصي نفسي والحريصين على الجودة ان يستمروا في المقاومة. مجموع المقاومات يمكن ان يطلق ثورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.