٢٠٠ عام من حياة الـ”جارديان”
تهانينا لصحيفة الـ”جارديان“ إذ تحتفل اليوم ٥ مايو بمرور ١٩٩ عاما على ظهور أول عدد منها، وبدء العام الأخير من قرنها الثاني.
وكانت الصحيفة قد أنشئت في عام ١٨٢١ تحت اسم ”The Manchester Guardian“، على يد تاجر قطن، يدعى جون إدوارد تايلر.
ولفت انتباهي الإعلان الذي وضعته الصحيفة على صفحتها على الإنترنت بهذه المناسبة، وخالفت فيه بذكاء المتعارف عليه في اللغة الإنجليزية.
فكلنا لا ننسى أبدا – عندما بدأنا أطفالا في تعلم اللغة الإنجليزية في مدارسنا – كيف كانوا يعلموننا السؤال عن العمر، وهو (How old are you?)، وكلمة ”old“ في السؤال تشير إلى العمر أو السن. ونذكر أيضا كيف كانوا يعلموننا الإجابة عن السؤال وأن ننهي الجواب بالكلمة نفسها، فنقول مثلا: ”I am seven years old“.
ولكن كلمة “old” تشير أيضا في الإنجليزية إلى ”كِبَر“ السن. وكبر السن في أذهاننا يقترن بفوات العمر، والشيخوخة، وما يصاحبها من عجز. وهذا ما أرادت صحيفة الجارديان لفت النظر بعيدا عنه. فقالت (200 years young) واستبدلت بكلمة ”old“ كلمة أخرى هي ”young“، لتقول للقارئ إنها – مع دخولها السنة الأخيرة من قرنها الثاني – لما تزل شابة فتية.
وهذه لفتة ذكية جدا من المسؤولين في الصحيفة، تجاه العمر.
وهذا هو مسلك الإنجليز في حياتهم اليومية تجاه السن: إنهم لا يفكرون فيه، ولا يُقعدهم، ولا يُوقف تخطيطهم للمستقبل، ولا يثبط عزيمتهم إن طمحوا إلى خوض عمل من الأعمال.
فكم من مسن ومسنة تراهم في الطرقات يجرون عربات تسوقهم الصغيرة وحدهم، وتراهم أيضا في مكتبة الحي يطالعون الصحف ويقرؤون الكتب، وفي المسارح يتمتعون بالفن الراقي، وفي المطاعم يشاركون أصدقاءهم أو أقاربهم أمسية اجتماعية.
وكم من مرة رأيت فيها رجالا ونساء تجاوزوا السبعين وأكثر في فصول تعليم العربية المسائية التي كنت أدرسها في جامعة ويستمنستر البريطانية.
وقرأت ذات مرة عن رجل حصل على شهادة الدكتوراه وقد تجاوز التسعين.
وأكاد أجزم أن ٨٠ في المئة من رواد رحلات السفن السياحية البحرية، التي تلف دول العالم وشواطئه، هم من كبار السن الذين يسعون إلى التمتع بأوقاتهم بعد أن أنهكتهم سنوات من العمل.
هذا هو ديدن الإنجليز، فكيف نتعامل نحن العرب مع العمر والسن؟
لم أكتشف حقيقة طريقة تعاملنا نحن العرب مع كبار السن إلا بعد أن عاشرت الإنجليز.
وأخذت ألاحظ أن من يتجاوز في مجتمعاتنا العربية الخامسة والأربعين أو الخمسين سنا يعامله الناس بوصفه مسنا، بل ينظر هو نفسه إلى نفسه باعتباره من ”كبار“ السن. وربما يرجع ذلك إلى تدني متوسط الأعمار في بلادنا.
ويشعرك المجتمع وأفراده أنك رجل ”كبير“، أو امرأة ”مسنة“. إذ يبدأ شباب الأسرة والأقارب في إسباغ ألقاب معينة عليك: ”عمو“، و”تيتة“، و”جدو“، و”شيخ“، و”حاجة“، و”حاج“ و”خالة“ وغيرها.
وتزدحم دوما أسئلة بعينها وتتكرر على ألسنة محدثيك، يدور أغلبها ويلف على الصحة، و”كيف صحتك؟“ ولا يسألك أحد أبدا عن خطة تعتزم تنفيذها خلال الفترة المتبقية من العام. ولا تجد لدى أي شخص ممن تقابلهم حب استطلاع ليعرف منك مثلا كيف تقضي وقتك، أو ما الرحلات التي تأمل في إنجازها.
والمصيبة الكبرى هي انعكاس هذا على أحاديث ”كبار“ السن أنفسهم، التي يهيمن عليها سلسلة من الأمراض، وأعراض تلك الأمراض، ومشكلات الأبناء والأحفاد، وأكلات زمان، وأسعار زمان، وأفلام زمان، ومسلسلات زمان.
وإن كنت من تلك الطائفة المبتلاة المفترى عليها، طائفة من تجاوزوا الخمسين، فهل تذكر أحدا من أقاربك سألك مرة عن آخر كتاب قرأته؟ أو عن آخر رحلة سافرت فيها، وإلى أين؟ أو عن هواية تمارسها، أو تريد تعلمها؟
في مجتمعاتنا يبدأ الرجل، أو المرأة، يموت ببطئ حتى قبل بلوغه سن المعاش. ويظل الموت يلاحقه حتى ينتصر عليه في النهاية بعد أن أنهكه من حوله بسلوكهم تجاهه، وبالطريقة التي يخاطبونه بها، وبحواراتهم معه، وأحيانا كثيرة بتركهم ”الكبير“ وشأنه، لا يشركونه في حديث أو مناقشة، لأنه – في رأيهم – ”رجل كبير، أو امرأة كبيرة، تحتاج إلى الراحة“!
مجتمعاتنا العربية في تعاملها مع العمر تدفعك للأسف دفعا إلى ”التقاعد“ فلا تقوم لك قائمة بعدها، والناس فيها يظنون أنهم بذلك يحسنون إليك صنعا.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
2 Comments
شكرا
فعلا هذا مايحدث ونحن بحاجة إلى مراجعة
تجارب الشعوب يجب الاستفادة منها، ومعاملة الإنجليز لكبر السن فعلا مفيدة لنا.