حياة

حياة قصة قصيرة

أخذت حياة تذرع الغرفة ذات الأمتار الثلاثة طولا فيفاجئها الحائط الأسمنتي، ثم تذرعها عرضا فيصدمها الجدار الفاصل بينها وبين جيرانها. مساحة الغرفة أصبحت لا تسع زفراتها المتلاحقة.

منذ اقتحام شيخ الحارة للسكون المتحفز لشقتها الصغيرة ذات الغرفة الواحدة، والشباك اليتيم، والباب الضيق، والمطبخ الصغير الذي مازال يحتفظ بعلامات دخان الطهو فيه زمان، وهي تشعر وكأن شقتها التي تعيش فيها هي وابنتها ذات الأحد عشر عاما، عصفت بها يد خفية. 

جاء ذلك النحِس بإنذار حملته إياه السلطات. إنذار بأن البناية التي صمدت سنوات وسنوات، حتى للزلزال الذي كاد يصرعها، حان وقت نعيها وستهدم خلال أسابيع، لأنها مخالفة. والمخالف في مدينتنا لا مكان له بيننا.

هذه الشقة الصغيرة، إن كان الناس يستطعيون وصفها بذلك بلا حياء، هي مأواها الوحيد هي وابنتها دنيا. 

أين تذهبان، كيف تتصرفان، وماذا تفعلان؟

وهل ستكون تلك الزيارة الشؤم هي نهاية العواصف التي أطاحت، ولما تزل، تعصف بحياتها؟

قبل عشر سنوات تركها غريب، زوجها رحمه الله. والحقيقة أنه أجبر على تركها بعد أن قهره اللعين الذي ينسل إلى الأجسام سرا وبلا إعلان، فيأكلها جزءا جزءا حتى لا تجد الروح مفرا إلا الإفلات والفرار.

وكم تردد المسكين على مستشفى السرطان، وكم عاد خائب الأمل، فلا مكان فيه له. ومعاشه الذي لا يتعدى المئتي جنيه، لا يمكن أبدا أن يبدده في علاج حالة تستشري في جسده النحيل ولا سبيل إلى إيقافها. وكيف تعيش حياة ودنيا إن أنفق المعاش على ذلك؟

وبعد غياب غريب أصبحت حياة، تحس بجدران الشقة الصغيرة وكأنها تميل للانقضاض عليها، خاصة بعد انتقال أفراد من الأمن تجاوزوا الخمسين بعرباتهم الكئيبة ولباسهم الأسود المفزع إلى التمركز في الشارع ليل نهار قاطعين السبيل على الحارة. 

وأخذت حياة تشعر أن قضبان السجن تحكم قبضتها عليها فلا تستطيع التنفس، لا في الغرفة، ولا في الحارة، ولا في الشارع الذي أصبح ثكنة عسكرية، فلا تستطيع الاقتراب أو الخروج إلا في ساعات محددة لشراء ما تحتاجه، قبل حلول موعد منع التجول. 

ولجأت حياة بعد غزو أفراد الأمن للشارع إلى التلفزيون القديم ذي الأربع عشرة بوصة، الذي لم يعرف إلا لونين: الأبيض والأسود، والذي اشتراه غريب قبل مرضه من أحد جيرانه بخمسة جنيهات، عساها أن تعرف منه السبب وراء إغلاق المنطقة.

وقالت نشرات الأخبار محذرة إن في المنطقة ”إرهابيين“ يلاحقونهم ويسدون أمامهم الأبواب للقبض عليهم، حتى ينعم الناس بالعيش الرغيد الذي اعتادوا عليه. 

لكن شيخ الحارة قال أيضا إن أمام حياة منفذا! 

وأي منفذ هذا الذي يأتي به هذا النحِس؟ 

أن تؤجل قرار الهدم إن دفعت هي وكل واحد من سكان البناية، ألفي جنيه فقط، قبل موعد تنفيذ الهدم بأسبوعين.

ومن أين تأتي حياة بهذا المبلغ الفلكي الذي لم تعتد حتى على عدّه، أو عد عُشره، وهي التي لم تنه إلا سنوات مدرستها الابتدائية، وكان أكبر مبلغ تمكنت من حسابه هو المئتي جنيه التي كان يتقاضها المرحوم غريب، وانتقلت إليها بعد وفاته.

أحست حياة بضيق في صدرها، لكنها قاومت هذا الإحساس، وتوقفت عن ذرع الغرفة، ووقفت في المطبخ تعد لها ولابنتها طعام العشاء. كانت قد تمكنت قبل ساعات من الخروج وشراء أربع أرجل دجاج كاملة بأظافرها لتطبخ منها حساء يفتّون فيه رغيفا من الخبز.

كان صوت التلفزيون يتقطع، فلا تستطيع تمييز ما يقول. صوت التشويش غطى على صوت البث، لكنه أحيانا ما ينطق. كانت المحطة تبث حوارا، يدور فيما يبدو على الانتحار، في حديث مع ضيوف من بينهم شيخ معمم.

ورنت الكلمة في أذن حياة، وكان لها وقع غريب في نفسها. وأنهت بسرعة إعداد الحساء، لكنها تركته في الوعاء. وسارعت إلى درج قديم لديها، كانت تضع فيه أوراقا قديمة، وأقلاما عتيقة.

وتسارعت أنفاسها، وتمتمت وكأنها تهمس لنفسها ”لم يعد هناك حيلة، لكن … ربما يبث الله في قلوبهم الشفقة“.

كانت دنيا مشغولة في رسم صورة في دفترها. لكن أمها نبهتها وقالت لها:

  • دنيا، حبيبتي، العشاء جاهز، أنا سأخرج وأعود بعد دقائق.
  • إلى أين يا أمي؟ الخروج الآن ممنوع، خطر
  • ربنا يسلم

وفتحت حياة الباب الوحيد وأطالت النظر إليه، ثم ردت بصرها إلى الداخل، ورنت دنيا بنظرة خالطتها دمعة وحيدة لم تكتمل، وأخذت غصة تسد حلقها، فلم تعد تستطيع البلع بسهولة.

وخرجت حياة من الباب، وبهدوء أغلقته وكأنها لا تريد إزعاجه. 

بعد غروب الشمس، أخذت العتمة تلف الحارة، ولكن لاحت خيوط ضوء متسللة من سيارات الأمن في بدايتها عند تقاطعها مع الشارع. 

لم تنتبه حياة إلى الوقت، ولكنها شعرت بخيوط الضوء المتسلل، عندما اقتربت من رأس الحارة، كأنها خناجر.

تسمرت حياة برهة، ثم عزمت أمرها، وأخذت تسير باتجاه عربات الأمن بلا تردد. صرخ فيها جندي ”قفي! ابتعدي! عودي أدراجك“.

لكنها فيما يبدو لم تسمع، وواصلت السير، ويداها ترتعشان. ودست يدها اليمنى في جيبها. وقبل أن تعيدها عاجلها صوت في مكبر صوت يمسكه ضابط الدورية ”ارجعي! ارجعي“. ثم دوى صوت إطلاق نار صوبها. وارتمت حياة وهي تتمتم ”أرجوكم … أرجوكم“.

الضابط يقف أمام جثتها، وأحد الجنود ينبهه ”وجدت هذه الورقة في قبضة يدها، سعادة الضابط“.

وتناول الضابط الورقة … وفتحها … وقرأها: 

”أرجوكم .. أرجوكم أمهلوني وابنتي فترة حتى أبحث عن مأوى لنا. هذا طلبي الوحيد الذي أريده أن يصل إلى سيادة المحافظ“.

في الشقة كانت دنيا تواصل رسم صورة من خيالها لجندي أمن، وكان صوت التلفزيون يتهادى متحشرجا، والمذيع مازال يناقش قضية الانتحار.  

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.