سيمفونية حب

سيمفونية حب

سيمفونية حب

محمد رياض العشيري

”أمي الحبيبة،

لا أعتقد أن هناك أي إنسان آخر على الأرض يستحق الكتابة إليه أكثر منك، وأنا في هذه الظروف هنا. وقد تكون هذه هي رسالتي الأخيرة إليك.

فأنا أكتب إليك من سرير في مستشفى. وسمعت الأطباء يتهامسون حولي عن حالتي، ويصفونها بصوت خافت بأنها خطيرة. لكن شيئا واحدا يهيمن على روحي، فها أنذا قريب من الوفاء بوعدي لك بالعودة ورؤيتك بعد غياب طويل.

هل تعلمين كم سنة مرت منذ أن أجبرت على تركك؟ خمسة وثلاثون عاما. كنت أعدّ كل يوم وكل ليلة، بل كنت أعد كل دقيقة.

ما زلت أتذكر ذلك اليوم جيدا. …

توارت الشمس قبل الأوان، وأظلمت السماء فأصبحت داكنة، قبل الغروب بدقائق قليلة. كان معظم الناس في المنازل. وفجأة هبت عاصفة من الشرق ملأت السماء بغبار كئيب معمى. وسمعنا خطى صاخبة. وعندما انقشع الغبار رأينا مئات الأشخاص في ملابس سوداء، وجوههم ملثمة بالسواد، يهاجمون القرية. 

يبدو أنهم على الأرجح غرباء جاءوا من أصقاع بعيدة.

في الصباح، وبعد أن سكن الغبار وهدأ، وجدت نفسي أسير وحدي بلا هدف مثل اليتيم على طول الطريق السريع، وليس معي أي شيء سوى حقيبة صغيرة بها مفتاح منزلنا، ومفتاح والدي، ووثائق سفري.

طردنا الغرباء من منازلنا، وقالوا إن لديهم أوامر من الحكومة بهدم المنازل فورا في تلك المنطقة استعدادا لبناء مشروع جديد. حتى شجرة الزيتون، التي نشأت تحت أغصانها وفي حضن جذعها، ولعبت في ظلها، اقتلعوها وقتلوها، وقطعوا أطرافها واحدا تلو الآخر.

في ذلك اليوم المشؤوم، واصلت السير على غير هدى، ولكن بخطوات حثيثة قبل أن تحل العتمة، حتى وصلت إلى قرية مجاورة، وهناك توقفت. لكنني لم أشعر بيأس، مثل بعض الناس منا.

وأنا يا أمي، وكما علمتنا في طفولتنا، لا تهزمني مشكلة أو كارثة، لأني دائما في تلك الحال أفكر في الحلول، ولا أغرق في طيات المشكلات. 

كنت مصمما على العودة إليك، مسلحا بسلاح أقوى من سلاح الغرباء.

كنت مصمما على العودة إليك، مسلحا بسلاح أقوى من سلاح الغرباء.

ما زلت أتذكر كلماتك التي كنت ترددينها بصوتك الحاني، وتلمع حروفها كالبرق أمام ناظري: “الحب، يا بني، أقوى من الحرب”.

ودفعتني تلك الكلمات إلى دراسة الموسيقى. وعكفت على التدريب والممارسة كل يوم، حتى ذاعت سمعتي وأصبح اسمي معروفا وصرت عازفا مشهورا. أحمل عودي وأتجول هنا وهناك، وأعزف بالحب وأغني للحب.

لكن الغرباء أغلقوا أمامي جميع أبواب العودة، لكني – يا حبيبتي – لم أنسك لحظة واحدة.

في الشهر الماضي فوجئت عندما تلقيت دعوة من منظمة خيرية لإحياء حفل موسيقي في قريتنا. أتصدقين؟ في قريتنا ..

وافق الغرباء على قدومي لأنهم اعتقدوا أن الحفلة الموسيقية ستروج صورتهم بوصفهم محبين للسلام. وسمحوا لي بالزيارة يا أمي، لكن لمدة يومين فقط. المهم أنني سأعود .. المهم أنني سأراكِ .. وأرمي همومي إلى صدرك يا أمي.

رقصت طوال النهار في ذلك اليوم، وكنت سعيدا جدا لأنني سأعود إليك. سأرى المكان الذي وقفت، أنا وشجرة الزيتون، نتهامس.  سأحدثها وأخبرها بما حدث لي، وسأنصت إلى حكايات الألم الذي اعتصرها عندما قطعوا أطرافها.

لقد أعددت نفسي جيدا، وتدربت ليلا ونهارا على العزف على سيمفونيتي الجديدة ”سيمفونية حب” التي ستسمعينها.

وجاء اليوم الموعود. 

ركبت الطائرة، لكن خفقان قلبي كان أسرع وسبق الطائرة، وعند قدميك حط الرحال. هناك تركت حقائبي في الفندق وخرجت مهرولا على عجل.

كانت بلاطات الشوارع العتيقة المربعة المتساوية كثيرة بلا داع ومملة. وبدت الأشجار على جانبي الطريق حزينة، ورأيت أغصانها منحنية، وكأنها تقف مطاطئة أطرافها في جنازة.

في نهاية الشارع سمعت صراخا، ورأيت مئات المتظاهرين يسيرون في مظاهرة كبيرة للمطالبة بالحرية والعدالة وحق العودة لذويهم الذين طردهم الغرباء. 

على الجانب الآخر من الشارع كان هناك عدد كبير من رجال الشرطة يواجهون المتظاهرين. 

وعندما اقترب المتظاهرون منهم رفع رجال الشرطة أسلحتهم وبدأوا في إطلاق النار.

لا أتذكر ما حدث، لكنني أعلم أني مازلت في المستشفى، حيث أرقد، بين الحياة والموت، بعد أن أصابتني رصاصة رغبت في مستقر لها بالقرب سويداء قلبي. 

لكنني، يا أمي، قريب منك .. ومن بيتنا .. ومن شجرتي .. شجرة زيتوني.

غفوت قبل ساعة ورأيتني في غفوتي القصيرة وقد طرت فوق أجواء المستشفى .. ورأيت نفسي بالقرب من شجرة الزيتون. وعندما وقفت بجانبها .. أصبحت أنا نفسي شجرة زيتون.

أمي الحبيبة،

أشعر أنني وفيت بوعدي. 

أعطيت ابني نوتة ”سيمفونية حب“ التي كنت سأعزفها في قريتنا. 

يجب أن تعزف ”سيمفونية حب“ في الموعد المحدد لها.

ابنك المحب: 

فجر“


اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

للمشاركة على :

اترك تعليقك

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.

اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading