يوميات رجل عادي: الحديقة هي الحديقة

يوميات رجل عادي: الحديقة هي الحديقة

أعشق من الرياضة المشي.

وكم أغبط جماعة ”المشائين“ من الفلاسفة تلاميذ أرسطو كلما قرأت عنهم. وأكاد أجزم أن المشي أثر فيهم فتولدت لديهم الأفكار. 

وحتى أمارس ما عشقت كنت أوثر – ومازلت – الذهاب إلى عملي والعودة منه سيرا على قدمي. وشجعني على ذلك أني وجدت طريقا قصيرا يمر عبر حديقة هايد پارك في لندن القريبة من البيت. 

وظللت أمارس عادتي صيفا وشتاء، ووجدتني – دون أن أدري – عضوا شرفيا فيما يعرف في اليابان بالـ”شينرين يوكو“، وهو المشي في الغابات والحدائق والاستمتاع بأجوائها. وهي رياضة أخذت الحكومة اليابانية، منذ عام ١٩٨٢، تشجعها. 

لماذا؟

لأن هناك دراسات جمة تشير إلى أن التعرض القصير لتلك الأجواء يحد من توتر الأعصاب، ويخفض معدل ضربات القلب، وضغط الدم. 

وقارنت جامعة ميشيجن الأمريكية في دراسة لها عام ٢٠٠٨ بين أداء الأفراد الإدراكي/أو المعرفي لمجموعتين من الناس. 

في المجموعة الأولى اختبرت الأفراد عقب سيرهم مباشرة في شوارع المدن المزدحمة، أما أفراد المجموعة الثانية فاختبرتهم بعد مشيهم مباشرة في الحدائق. 

وكان أداء مشائي الطبيعة في التجربة أفضل بنسبة بلغت ٢٠ في المئة من الآخرين. ويقول باحثون إن التعرض لبعض الوقت لأجواء الطبيعة يمكن أن يجعلك هادئ المزاج وحاد الذهن. 

ويشرح كال نيوبورت مؤلف كتاب (Deep Work) لنا ذلك بقوله: المشي في الطبيعة يحررك من الاضطرار إلى الانتباه وأنت تسير، على نقيض السير في شوارع المدن المزدحمة. المشي في الحدائق أو الغابات يعيد شحن بطارية دماغك.

كما أن المشي – بحسب ما تقوله جامعة هارڤارد، ومستشفى مايو كلينك في الولايات المتحدة – يساعدك في إنقاص الوزن، وتجنب أمراض القلب، وتقليل مخاطر الإصابة بالسرطان، وتقوية العظام، وتحسين حالتك المزاجية من خلال إفراز هرمون ”إندورفين“ المسكن للألم. 

المشي فعلا دواء عجيب.

ولكن هل يقطف ثمار تلك الفوائد جميعا كل مشاء؟

أشكّ في ذلك. ولأحكي لكم تجربتي.

ظللت أمارس المشي في رحلتي الذهاب إلى العمل والإياب منه فأستمتع في فصلي الربيع والصيف بجمال خضرة الأشجار وروعة الزهور والنباتات، وصفاء ماء بحيرة الحديقة، وأصوات رقرقته مع هبوب نسيم الهواء.

لكني كنت أرى وجها آخر كالحا في الخريف والشتاء، حينما تأخذ أوراق الشجر في الذبول والاصفرار، ثم التساقط في الشتاء، حتى تصبح الأشجار صلعاء تمد أياديها وقد برزت عروقها وهي تنتفض من البرد.

وكان ذلك الوجه الآخر يزيد لدي شعور الاكتئاب والقنوط.

وفي يوم من أيام الخريف، وكنت أمشي على مهل، وأوراق الشجر المصفرة الجافة تغطي الطرق، رأيتني أتأمل الأشجار، شجرة شجرة، وأحاول ألا أدهس أي ورقة من أوراقها المنتثرة على الأرض حتى لا أؤذيها. وتوقفت قليلا عن المشي، ووجدتني أقف في ظل بلا ظل تحت أغصان شجرة عجوز، وشعرت أنها تحدثني.

وقالت لي: للأشجار يا بني دورة حياة. تراها ربيعا وصيفا مثمرة مخضرة مورقة مزهرة، تحمل عروقها وأغصانها ثمراتها في حنو وتهتز بها مع النسيم يمينا ويسارا. 

ولكن حتى تحمل الأشجار وتلد هذه الثمار من جديد في الربيع لتتمتع بالحياة صيفا، فلابد أن تنفض الأشجار عن نفسها الأوراق التي شاخت، وتتخلص منها في الخريف، وتظل تتحمل وحدها برودة الشتاء حتى يحين الربيع وعليل نسيمه، وفيه يأتي المخاض وتولد الثمار. 

وليس ذلك، يا بني علامة موات وذبول، بل تأهبا لحياة جديدة وميلاد جديد. ولولا ذبول الأوراق وسقوطها لما أفسح المجال لأوراق جديدة، وولادة ثمار جديدة. هذه هي دورة حياة الأشجار يابني.

الأشجار هي الأشجار، والحديقة هي الحديقة، لم تتغير، ولم تتوقف دورات الحياة فيها عن مساراتها.

من تغير هو أنا. عندما أكون مفعما بالسعادة أراها فيما حولي: في الشجر، والنبات، والشمس، والمياه.

وحينما ينتابني اليأس أو التعاسة، أراها فيما حولي: في الأشجار الذابلة، والأوراق المصفرة الجافة، والمياه الراكدة.

فعلا: ”كن جميلا تر الوجود جميلا“

والحديقة هي الحديقة لم تتغير.     

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.