مؤتمر جلاسجو للمناخ وحكاية حرف (غ) المفترى عليه

مع انتهاء جلسات مؤتمر المناخ في مدينة جلاسجو البريطانية، لم ينته الخلاف بين الصحفيين العرب على كتابة اسم المدينة.

فهناك عدة صور لكتابتها ظهرت في الصحف والمواقع الإخبارية العربية، هي:

جلاسجو غلاسغو غلاسكو كلاسكو

 جلاسكو 

والمشكلة في هذه الصور الخمسة تكمن في تمثيل حرف (G) في الإنجليزية في اسم مدينة (Glasgow) بمقابل من الحروف العربية.

وترجع بلبلة الناطقين بالعربية وكتّابها حيال ”الجيم العربية“ إلى تعدد صورها الصوتية نطقا في العالم العربي. 

  • فبعض العرب، ومنهم الأردنيون، ينطقها صوتا مركبا يشبه صوت الـ”dj= دچ“،
  • وبعضهم، منهم المصريون واليمنيون في الجنوب، ينطقها ”g= ج“، 
  • وآخرون، ومنهم اللبنانيون والسوريون، ينطقونها ”j= چ“، 
  • وهناك جماعات، منها خليجيون، تنطقها ”y= ي“.

مشكلة صوت الـ”g“؟

لا يعد صوت الـ/g/ في نطق اسم مدينة (Glasgow) مشكلة، إلا لمن ينطقون الجيم العربية إما ”دچ“، وإما ”چ“. إذ إن حرف ”ج“ العربي، بالنسبة إلى هاتين المجموعتين من العرب يرمز فقط إلى ما يسمونه ”الجيم المعطشة“، وأسميها أنا ”الجيم الفارسية“، بينما يرمز حرف (g) في (Glasgow) إلى ما صوت يسمونه ”الجيم المصرية أو القاهرية“، وأسميها أنا ”الجيم العربية السامية الأصلية“. 

أما من ينطقون حرف (ج) مثل صوت /g/ فلا يواجهون تلك المعضلة، لأنهم يكتبون اسم المدينة (جلاسجو).

لكن الناطقين بالجيم المعطشة تواجههم تلك المعضلة منذ بدء الاحتكاك بالبلدان الغربية ولغاتها في بدايات القرن التاسع عشر، ونشأة الصحافة العربية في مصر والعراق وبلاد الشام والجزائر وتونس بعد ذلك والحاجة إلى الكتابة عن الغرب ونقل أخباره. 

فماذا فعل الكتاب العرب لحل تلك المعضلة عند نقل أسماء الأعلام والمدن والمصطلحات الأجنبية التي تشتمل على صوت الـ/g 

حرف (غ) المفترى عليه

تفتقت أذهان بعضهم عن طريقة استخدموا فيها حرف (غ) العربي ليمثل صوت /g/، أي ما يشابه نطق صوت ”الجيم المصرية!“ في الكلمات الأجنبية. ولما أزل أبحث حتى الآن عن تاريخ ذلك. فكتبوا gram غراما، وtelegraph تليغرافا، وGas غازا، وهكذا.

واتبع هذه الطريقة نفسها في نقل اسم مدينة (Glasgow) إلى العربية من كتبوها (غلاسغو).

ولم تكن هذه، في رأيي، هي الطريقة المثلى لحل معضلة صوت /g/ في الكلمات الأجنبية. لماذا؟

إذ إن حرف (غ) في العربية يستخدم بالفعل في الأبجدية العربية للرمز لصوت عربي محدد يظهر في بداية كلمة ”غناء“، ووسط كلمة ”رغد“، ونهاية كلمة ”فراغ“. 

ولا يوجد في أي لغة من لغات العالم – بحسب ما أعلم – حرف واحد في أبجديتها يرمز بمفرده لصوتين مختلفين في الوقت نفسه. لأن هناك قاعدة أساسية في معظم أبجديات العالم، وهي استخدام ”حرف واحد للرمز إلى صوت واحد“. والهدف الأسمى لذلك هو تفادي الخلط والغموض، الذي قد يفضي إلى صعوبة الفهم.

وربما يعترض بعضنا عندما يتذكر بعض حالات في اللغة كالإنجليزية ينطق فيها حرف واحد، مثل حرف (g) مرة بصوت (g)، كما في (Glasgow)، ومرة بصوت (dj)، كما في (George).

لكن ما يفرّق مثل تلك الحالات عن تمثيل حرف (غ) العربية، مرة لصوت /غ/ العربي، ومرة لصوت /g/ في اللغات الأجنبية هو أن حرف (غ) هنا يستخدم بمفرده في الرمز لأي من الصوتين. بينما لا يحدث ذلك في حالة حرف (g) في كلمتي (Glasgow) و(George) لأن ما حدد الصوت في كل حالة هنا هو الحركة التالية له، ولا يعتمد الأمر على الحرف وحده.

وعلى نقيض قاعدة الأبجدية التي ذكرتها، تعرف بعض لغات العالم ظاهرة أخرى، ألا وهي استخدام حرفين مختلفين للرمز إلى صوت واحد. من ذلك مثلا صوت /f/ في الإنجليزية الذي يرمز إليه بـ”f“ في (father)، و ”ph“ في (philosophy)، و ”gh“ في (rough). ولا خطر من وجود مثل تلك الظاهرة، لكنها قد تمثل صعوبة ما في تعلم اللغة التي تستخدمها بالنسبة إلى الأجانب بسبب الابتعاد عن قاعدة ”حرف واحد لصوت واحد“.

وأنا أشعر أن من تبنوا هذه الطريقة لتمثيل صوت /g/ في الكلمات الأجنبية تجنوا على حرف (غ) في العربية، وحملوه دون غيره من الأحرف مهمة صعبة بأدائه وظيفتين: تمثيل صوت /غ/ العربي، وتمثيل صوت /g/ في الكلمات الأجنبية.

وأدت مخالفة القاعدة الأساسية في أبجديات العالم، وهي ”حرف واحد لتمثيل صوت واحد“، إلى نتائج وخيمة في نطق الكلمات الأجنبية، وفهمها عند الاستماع إليها. إذ كان من المفترض أن ينطق العرب كلمات (gram)، و(telegraph)، و(gas) كما ينطقها أهل لغتها الأصلية، محافظين على صوت /g/. لكن ما حدث هو أن كثيرا من العرب الآن ينطقون حرف (غ) في تلك الكلمات غينا عربية، وليس /ج/، لأنهم لم يدركوا أنه يرمز إلى صوت أجنبي، فيقولون: غراما، وتليغرافا، وغازا.

وهؤلاء العرب إن أتيح لهم فرصة الاستماع إلى حديث بالإنجليزية مثلا استخدم المتحدث فيه كلمات مثل (gram)، و(telegraph)، و(gas)، فقد لا ينتبه بعضهم على الأقل، إلى أن المقصود بها هو الكلمات المقابلة لها في العربية، وهي غرام، وتليغراف، وغاز. 

حل ناجع آخر

لكن، هل كان ثمة حلول أخرى لعلاج معضلة صوت /g/ في الكلمات الأجنبية، غير استخدام حرف (غ) لتمثيله؟

نعم، كان هناك على الأقل حل آخر أنجع وأقل ضررا.

ويتمثل هذا الحل في إدخال حرف جديد على الأبجدية العربية، وليس ذلك بمسلك غريب إذ إن علماء العربية في الماضي لجأوا إلى شيء مماثل، عندما أدخلوا علامات التشكيل، والتاء المربوطة، وجمعوا بين اللام والألف في حرف واحد.

وكذلك فعل من تبنوا الحرف العربي في الماضي في كتابة لغاتهم. ومن هؤلاء الفرس، الذين أضافوا إلى الأبجدية العربية حرف (پ)  ليرمز إلى صوت /p/ غير الموجود في العربية، وحرف (ژ) لتمثيل صوت /j/ الذي لم يكن موجودا في العربية. ثم حرف (چ) للرمز إلى صوت /ch=تش/ في مثل كلمة (church) غير المستخدم في العربية.  

وهذا أيضا ما تبنته بعض اللهجات العربية، خاصة تلك المتأثرة بلغات مجاورة مثل الفارسية والتركية، كاللهجة العراقية. فقد استعار العراقيون حرف (گ) الذي يعرف باسم ”الجاف الفارسية“، للرمز إلى صوت /g/. فكتبوا (gas) گاز، وكذلك استخدموها في كلمة ”بشمرگة“.  

وبناء على ذلك، أتصور أن الحل الذي كان ينبغي للكتاب والصحفيين تبنيه هو إضافة حرف جديد، وليكن مثلا (گ) للرمز إلى صوت /g/، شريطة التأكيد على الإبقاء على صورة هذا الحرف الجديد كما هي حتى لا يختلط بحرف (ك) العربي، ويفقد رمزيته، وينطقه بعض العرب (كافا) كما يحدث للأسف حاليا في نطق كلمات، مثل (سيگارة)، وكلمة (گاز)، فيقولون (سيكارة)، و(كاز). 

وهذا ما فعله من انتهجوا هذا النهج في تمثيل اسم مدينة (Glasgow)، فكتبوها (گلاسگو). وإن كان الحرف قد فقد صورته الأصلية، وهي (گ)، فكتبت الكلمة (كلاسكو). 

ولو حدث هذا لحافظنا على قاعدة الأبجدية ”حرف واحد لصوت واحد“، ولتفادينا كثيرا من الخلط وسوء الفهم.

ثقة عمياء في جوجل

بيد أن هناك عاملا مهما أسهم في شيوع الخلط بين الصحافيين العرب في تعاملهم مع اسم مدينة (Glasgow)، وهو الدور الذي يؤديه محرك جوجل، واعتماد جل المواقع الإخبارية عليه في تخير الكلمات التي يرشدهم إلى شيوعها وثقتهم شبه المطلقة في أحكامه. وهذه الأحكام في حقيقتها ليست سوى جماع ما هو موجود في صفحات المواقع الموجودة على الإنترنت، بما في تلك الصفحات من غث وثمين، وصائب وخاطئ. 

وهذا كله أفضى – من وجهة نظري – إلى الخلط الذي رأيناه في بداية المقالة، وإصرار كثير من المواقع على تبني الصورة الحرفية التي وجدوها في جوجل لاسم المدينة التي عقد فيها مؤتمر المناخ، وهي ”غلاسكو“، بالرغم مما فيها من عدم اتساق في تبني الرمز المناسب لصوت /g/ المتكرر مرتين في اسم المدينة.  

   

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.