لماذا يجب أن نستبدل بـ”الشرق الأوسط” مفهوما آخر؟

لماذا يجب أن نستبدل بـ"الشرق الأوسط" مفهوما آخر؟

أنا لا أحب استخدام مصطلح ”الشرق الأوسط“، ولا أميل إلى الترويج له، لأسباب سأوضحها. لكني مضطر إلى الحديث عنه لأعرض لما يكمن وراءه.

أول نقطة يجب أن نعرفها هي أن هذا المصطلح ”الشرق الأوسط“ ليس مصطلحا عربيا.

صحيح أنه مكون من كلمتين عربيتين، لكنه يعبر عن مفهوم غير عربي، لم تعرفه لا جغرافيةُ العالم العربي، ولا تاريخُه، ولا الثقافة العربية من قبل.

فـ”الشرق الأوسط“ مصطلح جغرافي وليد ثقافة الغرب، خاصة بريطانيا التي نظرت إلى العالم من موقعها الجغرافي فقسّمته إلى شرق وغرب.

وقسمت هذا الشرق ثانية من حيث بعده عنها، فما كان قريبا منها فهو ”شرق أدنى“، أو ”أوسط“، وما كان بعيدا عنها فهو ”شرق أقصى“.

وكان مفهوم ”الشرق الأوسط“ يشير جغرافيا عند نشأته إلى مصر والسودان وفلسطين وشرق الأردن، واستُخدم وقتها، كما تقول دائرة المعارف البريطانية، اسما للقيادة العسكرية لبريطانيا في مصر آنذاك.

ثم اتسع نطاق المصطلح، بحلول منتصف القرن العشرين، فأصبح يشمل تركيا وقبرص وسوريا ولبنان والعراق وإيران وإسرائيل وليبيا ودول الخليج، وأحيانا ما يضم أيضا بلدان شمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان.

ولا بد أن ننتبه إلى أن توسع مدلول المفهوم حدث بعد الحرب العالمية الثانية، بعد نشوء إسرائيل، فشمَلَها التعريف، ودخلت جغرافيةَ المنطقة.  وبدأ هذا المفهوم البريطاني الغربي نشأة يُرسّخ لواقع جغرافي جديد في أذهان الناس، خاصة أبناء المنطقة من العرب.

ويرجع اهتمام الغرب بتكريس هذا المفهوم والسعي إلى نشره – في رأيي – إلى سببين جوهريين هما:

أولا: ترسيخُ الواقع الجغرافي في أذهان سكان المنطقة، حتى يتعودوا عليه وعلى مكوناته.

ثانيا: محاربةُ مفهوم آخر، له تاريخ طويل في أذهان العرب، وهو مفهوم ”الوطن العربي“.

وترجع أهمية هذا المفهوم إلى أن فيه إشارة إلى التاريخ الذي ترسخت جذوره في الجغرافية. كما أنه يشير إلى عناصر مشتركة بين شعوب المنطقة، من بينها اللغة والدين.

وإذا كان من الصعب اختراق مفهوم ”الوطن العربي“، فيجب إذن محاربته وقتله.

ولكن هل تُقتل المفاهيم؟

حياةُ المفاهيم، أو لنَقُل التصورات الذهنية، التي تعيش في عقول الجماهير، وتغييرُ تلك المفاهيم، أو القضاءُ عليها، من بين المسائل التي يعالجها علم اللغة الإدراكي (cognitive linguistics).

وهو يعالج طريقةَ تفكيرنا، وكيفيةَ التأثير في الجماهير، بواسطة غرس تصورات ذهنية جديدة، من أجل إقناع الناس بفكرة معينة، أو لإحلال تصور ذهني مكان آخر.

ويقول علم اللغة الإدراكي إنك عندما تسمع كلمةً تدل على شيء حسي يرسُم ذهنُك صورةً له، حتى وإن قيلت الكلمة في سياق نفي أو رفض. فلو قلت لكم الآن: (لا تفكروا في ترامب)، فلابد أن تَجلُبَ أذهانُكم صورةً له.

ولذلك، إن كنت ترفض مفهوما، أو تصورا ذهنيا ما، فلا يكفي أن تعلن هذا الرفض. فإن كنت لا تؤيد الرئيس الروسي بوتين، مثلا، وتريد محو صورتَه من أذهان مَن تخاطبه، فلا يكفي أن تقول: (أنا لا أؤيد بوتين). لأنك حينما تقول ذلك، ترسّخ في الوقت نفسه، الصورة الذهنيةَ له في العقول، حتى وإن كانت الجملة بالنفي.

ما يجب أن تفعله لمحاربة تصور ذهني ما، هو أن تستبدل به مفهوما  آخر.

ومن هنا نفهم إصرارَ الغرب على نشر مفهوم ”الشرقُ الأوسط“، بل تحديثِه بمفهوم آخر هو ”الشرق الأوسط الجديد“ الذي طلعت به علينا وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندوليزا رايس.

وقد نجح الغرب في موت مفهوم ”الوطن العربي“، الذي لم نعد نسمعه ولا نقرأه.

وفعل الغرب ذلك بنشر مفهوم بديل يرسّخ واقعا جغرافيا جديدا في الأذهان. وقد شاركنا نحن العرب جميعا – من أسف – في نشره باستخدامه في صحفنا وكتاباتنا ومقابلاتنا ومازلنا.

وكم أتمنى أن نعيد الحياة إلى مفهوم ”الوطن العربي“ الذي أصر دوما على استخدامه كلما سنحت الفرصة. وهذا ما أفعله في أي استمارة رسمية، وأنا أعيش في أوروبا، حينما أسأل عن المنطقة التي انحدرت منها، فأكتب دائما ”العالم العربي“.

 

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.