هل تذكرون عبارة ”رجل أوروبا المريض“؟
من أطلقها؟ وعلى من أطلقت؟ وما السبب وراء إطلاقها؟
في القرن التاسع عشر تضعضع حال الإمبراطورية العثمانية اقتصاديا وأخذت تتراجع باعتبارها قوةً كبرى.
وكان يوجد في ذلك الوقت ثلاثُ قوى كبرى أخرى هي: الإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية البريطانية، والإمبراطورية النمساوية. وكان هناك عداء شديد وحروب طاحنة بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية. وكان آخرَ تلك الحروب، الحربُ العالمية الأولى.
وتذكر مصادر تاريخية أن قيصر روسيا نيكولاي الأول كان أول من استخدم مصطلح “الرجل المريض” لوصف الإمبراطورية العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر.
وكان القيصر الروسي يسعى إلى التوسع والسيطرة على أجزاء من الإمبراطورية العثمانية بعد ضعفها.
وبعد فترة تفككت الإمبراطورية العثمانية فعلا وقُسمت أراضيها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
ما حدث إذن هو أنه عندما قررت أوروبا الإجهاز على الدولة العثمانية، عقب خسارتها في أكثر من حرب، وتضعضعها المالي وتحكم القوى الأوروبية الكبرى فيها، رفعت شعارا بسيطا تصف به تلك الدولة، بأنها ”رجل أوروبا المريض“، وظلت تردده.
ولكن كيف صيغ هذا الشعار؟
صيغ في صورة مجازية يتقبلها العقل الباطن للجماهير بسهولة. فمن بين قواعد اللاوعي، أو العقل الباطن لدينا، التي ينبه إليها علماء النفس والباحثون في علم اللغة الإدراكي، أن له لغةً خاصةً به ولا يستخدم غيرها.
ولغة العقل الباطن هي المشاعر والصور والأحاسيس. وهذا ما نشاهده ونحس به في الأحلام، وهي من عمل العقل الباطن، ولا تشتمل على مشاهد وأصوات فقط، بل تتضمن أيضا روائح وأحاسيس، ومذاقات.
وأسرع ما يتقبله العقل الباطن هو الكلمات والتعبيرات المصوِّرة، والصور المجازية، التي يتمثلها بيسر في المرحلة الأولى، ثم يستوعبها ويعمل على تحقيقها فيما بعد.
ويدعو هذا الشعار، وصورته المجازية التي نرى فيها مريضا متهالكا لا يقوى على فعل شيء، بل أصبح عالة على غيره، بطريقة غير مباشرة إلى مساهمة كل من يستطيع في القضاء على هذا المريض الذي لا أمل في شفائه، بل أصبح عبئا على القارة.
وهكذا لجأت روسيا والدول الأوروبية غير المسلمة إلى سلاح اللغة، جنبا إلى جنب العتاد العسكري للقضاء على الإمبراطورية العثمانية المسلمة التي كانت تسيطر على أجزاءٍ من أوروبا.
وهذا هو ديدن السياسيين دوما حينما يستخدمون اللغة بوصفها أولَ سلاح يُشهرونه لبلوغ مأرب سياسي، أو عسكري، وتحقيق مكاسب في هذين الميدانين وغيرهما.
وهذا هو جوهر السياسة، كما يعرفها عالم اللغة، بول تشيلتون، الباحث في تحليل الخطاب السياسي، إذ يصف السياسة بأنها ”كيفية استخدام اللغة“.
فنحن عن طريق اللغة، كما يرى تشيلتون، ومن خلال المؤسسات السياسية والاجتماعية، يمكن أن نعلن الحرب، وأن نحكم على شخص بأنه ”مذنب“، فنسجنه أو نعدمه، أو بأنه ”بريء“، وأن نزيد الضرائب أو نخفضها، وأن نرفع الأسعار.
ويرى بعض اللغويين الآخرين، أن اللغة مرتبطة بالسياسة ارتباطا وثيقا، وأن أي منطوق لغوي يكشف وراءه دوما انحيازا سياسيا معينا.
ويجب أن ندرك أن الدور الذي تؤديه الكلمات التي نستخدمها كل يوم في حياتنا، لا يقتصر على إرضاء المخاطبين أو إغضابهم، بل إن تلك الكلمات كثيرا ما تثير – إلى جانب ذلك، وربما نتيجة لذلك – في أذهان السامعين عند نطقها، صورا ذهنية معينة، وتفرض على المتلقين فهما خاصا ومحددا تجاه قضية معينة.
وتكمن أهمية اللغة (أو الكلام)، فيما تثيره في أذهان المتلقين من صور ذهنية محددة.
ولا يقف الأمر عند حد التصورات الذهنية، إذ إن الإنسان عادة ما ينتقل من مرحلة الإدراك الذهني إلى مرحلة السلوك النابع من هذا الإدراك، فيسلك سلوكا معينا.
وهذا بالضبط ما شهد به التاريخ الحديث، كما رأينا.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.