بشرية الرسل بين تكذيب أقوامهم وتقديس بعض أتباعهم

بشرية الرسل بين التكذيب والتقديس

استوقفتني عدة آيات في سورة إبراهيم جاءت في شكل حوار موجز بديع كاشف عن العلاقة بين الرسل وأقوامهم. وتقع تلك الآيات في بدايات السورة، من الآية التاسعة حتى الآية الثالثة عشرة. 

وتقول الآيات:

أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ (9)

قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِي ٱللَّهِ شَكّٞ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ يَدۡعُوكُمۡ لِيَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُؤَخِّرَكُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ قَالُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأۡتُونَا بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ (10) 

قَالَتۡ لَهُمۡ رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأۡتِيَكُم بِسُلۡطَٰنٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (11) 

وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَاۚ وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيۡتُمُونَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ (13)

وسورة إبراهيم من السور المكية التي نزلت في المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، التي جاهد فيها نبينا الكريم عليه السلام قومه لإقناعهم بصدقه، وبأنه رسول من الله وباتباع رسالته.

أسلوب الحِوار“:

وما استوقفني في الآيات الخمسة السابقة هو استخدام أسلوب الحِوار لعرض ما دار بين أقوام نوح وعاد وثمود من ناحية ورسلهم من ناحية أخرى.

وفي اختيار أسلوب ”الحِوار“ في القصص القرآني وفي كثير من السور، درس مهم لنا نحن المسلمين اليوم بطريقة غير مباشرة حتى نحرص على علاج خلافاتنا دائما بالحوار، وأن ندع النزاع والشقاق. 

ومن قبل حاور الله تعالى بعضَ أنبيائه عليهم السلام، مثلِ إبراهيم ونوح وموسى وغيرِهم، بل حاور إبليس أيضا في قصة خلق آدم عليه السلام.

معاني الآيات:

ولكن ماذا تقول تلك الآيات الخمسة؟

تعبر بداية الآيات عن غيظ الأقوام لما جاءتهم رسلهم ورفضِهم لهم وشكهم فيهم تعبيرا حسيا، إذ عضوا على أيديهم من الغيظ حينما جاءتهم رسلهم بالبينات معلنين كفرهم بما أرسل به الرسل وشكهم فيه.

ويرد الرسل بتبكيت أقوامهم لشكهم في خالق السموات والأرض الذي لا يهدف من دعوتهم إلا إلى مغفرة ذنوبهم.

فكيف كان رد الأقوام؟

كان تعجبا مما جاء به الرسل ونكرانا له. وحجتهم في ذلك أن هؤلاء الرسل بشر مثلهم، وكيف يتسنى لبشر مثلهم ادعاء هذا؟ 

وأصر الأقوام بعناد على تكذيب الرسل، وصور لهم وهمُهم أن هدف الرسل هو فقط إبعادُ أقوامهم عما كانوا يعبدون. واشترطوا على رسلهم أن يأتوهم ببرهان على صحة دعواهم.

وهنا يؤكد الرسل بشريتهم ولا ينكرونها مقرّين فعلا بها وبأن صلتهم بالله تعالى عن طريق الوحي إنما هي فضل ومنة منه جل وعلا.

ثم يؤكد الرسل لأقوامهم أن الإتيان ببرهان على صحة رسالتهم ليس أمرا بأيديهم، ولكنه بيد الله سبحانه وتعالى.

ويصور الحوار كيف هدد الكفار هنا رسلهم بالطرد من أرضهم إن لم يعودوا إلى ملة أقوامهم.

فكرة مهيمنة

الفكرة المهيمنة في الآيات هي مسألة ”بشرية الرسل“. 

والأمر اللافت للنظر في مسألة ”بشرية الرسل“ هو أنها صفة يستخدمها الرسل بأمر من الله تعالى في وصف أنفسهم، وهي أيضا صفة يلجأ إليها أقوامهم لرفض الاعتراف بهؤلاء الرسل. 

فكيف يستقيم ذلك؟

وقبل أن نجيب عن هذا السؤال تعالوا نرى كيف يصف الرسل أنفسهم في آيات القرآن الكريم؟

يقول نبينا الكريم بأمر من ربه في سورة فصلت الآية السادسة: ”قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إلي …“

وفي الآية العاشرة بعد المئة من سورة الكهف يقول: ”قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إلي …“.

ويقول في الآية الثالثة والتسعين من سورة الإسراء: ”قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا“.

وهكذا قال نوح وهود وصالح عليهم السلام من قبلُ. وهذا ما جاء في الآية الحادية عشرة من سورة إبراهيم: ”قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده“.

بشر يُوحى إليهم

وتشير تلك الآيات التي يصف فيها الرسل أنفسهم إلى ارتباط صفة البشرية لديهم بما يميزهم جميعا، وهو اختصاصهم دون غيرهم بأنهم ”يوحى إليهم“، أي بأنهم على صلة بالله تعالى وأنهم ”منّ عليهم من بين عباده“. 

فهم بشر لكنهم متميزون بهذه الميزة.

وما كانوا لينالوا تلك الحُظوةَ لولا صدقُهم ونبلُ أخلاقهم وصلاحُهم وتقواهم وعزوفُهم عما يسود مجتمعاتهم من فساد وكفران. 

صفات بشرية:

لكن، لماذا يأمر الله رسله بأن يؤكدوا لأقوامهم ”أنهم بشر مثلهم“؟

قد يرجع الأمر إلى أنه ليس من السهل على العقل البشري المحدود القدرة أن يقتنع بوجود صلة مباشرة بين الله تعالى والبشر العاديين، الذين يأكلون ويشربون ويمرضون ويتزوجون وينسلون ويموتون. 

وقد لفت إلى شيء من هذا أقوام بعض الأنبياء الذين أرسلوا بعد نوح عليه السلام عندما أشاروا إلى بعض تلك الصفات البشرية المحضة متعجبين ومنكرين وجودَها في الرسل. وجاء ذلك في سورة المؤمنون: 

”وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلُكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون“ (٣٣). 

  • وتؤكد آيات القرآن الكريم أيضا على موت الرسل، كغيرهم من البشر، وأنهم ليسوا مخلدين. يقول الله تعالى في سورة الزمر: 

”إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ“ (٣٠)

ويقول في سورة الأنبياء: ”وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ“ (٣٤)

  • وهم أيضا لا يستطيعون من تلقاء أنفسهم الإتيان بمعجزات إلا بإذن من الله. وتصور هذا آيات في سورة الإسراء:

”وَقَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا (90) أَوۡ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَعِنَبٖ فَتُفَجِّرَ ٱلۡأَنۡهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفۡجِيرًا (91) أَوۡ تُسۡقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمۡتَ عَلَيۡنَا كِسَفًا أَوۡ تَأۡتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوۡ يَكُونَ لَكَ بَيۡتٞ مِّن زُخۡرُفٍ أَوۡ تَرۡقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤۡمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيۡنَا كِتَٰبٗا نَّقۡرَؤُهُۥۗ “ 

وكان رد الرسول الكريم:

”قُلۡ سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا“ (93)

  • والرسل مثل غيرهم من البشر لا يعلمون الغيب، ولا يملكون جلب الخير لأنفسهم ولا درأ الشر عنهم. تقول سورة الأنعام:

”قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ“ (٥٠)

وتقول آية سورة الأعراف:

”قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ“ (١٨٨)

  • ومن باب العلم بالغيب الذي لم يختص الله تعالى به أحدا من الرسل أو البشر، علمُ الساعة، ومعرفةُ موعد يوم القيامة. وقد سئل عنه نبينا الكريم من قومه غير مرة. وكان رد الوحي عليه حاسما، وهو أن هذا مما اختص الله به نفسه:

”يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةٗۗ يَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ“ (الأعراف – ١٨٧)

ويقول تعالى في سورة الأحزاب: ”يَسۡـَٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا“ (٦٣)

  • وهم أيضا يتكلمون لغة أقوامهم. تقول سورة إبراهيم: 

”وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ …“ (٤)

  • وهم أيضا معرضون للمرض. وهذا نداء أيوب عليه السلام لربه:

”وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ“ (الأنبياء ٨٣)

  • ومعرضون للغضب:

”وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلۡغَضَبُ أَخَذَ ٱلۡأَلۡوَاحَۖ وَفِي نُسۡخَتِهَا هُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ يَرۡهَبُونَ“ (الأعراف ١٥٤)

وقوله تعالى أيضا:

”وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ“ (الأعراف ١٥٠)

  • وهم أيضا مثلُ غيرهم من البشر يتزوجون وينجبون ويحبون أولادهم. ولنا في يوسف عليه السلام وقد تهيأت له امرأة العزيز لتُغويه، وفي موسى عليه السلام وقد مال إلى إحدى ابنتي شعيب بعد أن سقى لهما، وفي نوح عليه السلام وقد أشفق على ابنه من الغرق، وفي يعقوب وقد أشفق وحزن على ابنيه، أمثلةٌ ناصعةٌ على بشريتهم جميعا.
  • ونظرا للطبيعة البشرية للرسل، فإن صلتهم بالله لتبليغ التكليف لا تكون مباشرة، بل بوحي أو بواسطة. يقول الله تعالى: 

”وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيم“ (الشورى ٥١) 

وواجه الأقوام رسلَهم، وقد أكدوا لهم غير مرة أنهم بشر مثلُهم، بالتكذيب لأنهم بشر، ليس ثمة ما يفرّق بينهم وبين أقوامهم، إلا أنهم يوحى إليهم. 

وهكذا كُذّب نوحٌ عليه السلام وتمنى قومه صراحة أنْ لو كان الله أرسل إليهم ملائكة بدلا منه. 

جاء ذلك في سورة المؤمنون: ”فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين“ (المؤمنون – ٢٤)  

ويرد الله تعالى ذلك قائلا في سورة الإسراء ”قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزّلنا عليهم من السماء ملكا رسولا“ (٩٤)

ولم يكتف الأقوام بطلبهم ملائكة من عند الله بدلا من الرسل الذين يعيشون بينهم من البشر ويماثلونهم، بل أخذوا يهاجمون رسلهم ويُذمُونهم بشتى الصفات السيئة، منها:

الاتهام بالكذب في:

”وَمَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ“ (الشعراء – ١٨٦)

”قَالُواْ مَآ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَمَآ أَنزَلَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَكۡذِبُونَ“ (يس:١٥)

والاتهام بالجنون في:

”إِنۡ هُوَ إِلَّا رَجُلُۢ بِهِۦ جِنَّةٞ فَتَرَبَّصُواْ بِهِۦ حَتَّىٰ حِين“ (المؤمنون: ٢٥)

”وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُون“ (القلم: ٥١)

والاتهام بالسحر في:

”أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ“ (يونس: ٢)

”وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِر كَذَّابٌ“ (ص: ٤)

بين التكذيب والتقديس

وهكذا نرى كيف أمر الله تعالى رسلَه عليهم السلام أن يؤكدوا لأقوامهم أنهم بشر مثلُهم، وأنهم لا يمتازون منهم إلا بأن الله اختارهم ومنَّ عليهم بأن يكونوا مبلغي رسالته لأقوامهم.

ورأينا أيضا كيف كان رفضُ الأقوام للرسل مبنيا في أساسه على أن هؤلاء الرسل ليسوا سوى ”بشرٍ مثلِهم“، فكيف يصدقونهم؟

وهنا أعود إلى السؤال الذي طرحته في بداية المقالة، وهو أن الأمر اللافت للنظر في مسألة ”بشرية الرسل“ هو أنها صفة يستخدمها الرسل بأمر من الله تعالى في وصف أنفسهم، وهي أيضا صفة يلجأ إليها أقوامهم لرفض الاعتراف بهؤلاء الرسل. فكيف يستقيم ذلك؟ 

يكشف هذا الموقف الصعوبة التي قد يواجهها بعضُ الناس في مسألة الرسل وقبولِ دعواهم. إذ لا تَقبلُ عقولُهم إمكانيةَ وجود صلة بين الله تعالى وهؤلاء الرسل البشر، الذين يعيشون بينهم صباح مساء، ويسعون إلى برهان يثبت صدق الرسل ويؤكد صحة دعواهم. 

ودفعت صعوبة التصديق العقلي لمسألة بشرية الرسل بعضَ الأقوام إلى تكذيب الرسل، ورفض ما أرسلوا به تماما، وهذا ما قصته علينا آياتُ سورة إبراهيم التي نتدبرها في هذه المقالة.

ودفعت صعوبة التصديق العقلي لمسألة بشرية الرسل طائفة أخرى من الناس لما يزل يعيش بيننا بعض منهم في عصرنا الحديث، إلى اتخاذ نهج آخر. 

وهؤلاء لم يكذبوا الرسل لأنهم بشر، بل صدّقوا وآمنوا برسالات الرسل، بيد أن عقولهم دفعتهم إلى إسباغ غلالات من القداسة على الرسل وعلى آلهم وعلى ذريتهم كذلك. وقد تبلغ هذه القداسة أحيانا حد التأليه، كما حدث في بعض الشرائع والمذاهب.

ومن هنا تتضح ضرورةُ تأكيدِ آيات القرآن الكريم بجلاء على مسألة ”بشرية الرسل“ حتى تُقنع كلا الطائفتين: الأقوام الذين كذبوا الرسل لأنهم بشر، ومن يعيشون بيننا ممن آمن بالرسل وصدق بهم، لكنهم أسبغوا عليهم من القداسة، وأحيانا من التأليه، ما لا يتماشى وتوجيهات الكتاب المبين.

وكأن القرآن الكريم يريد أن يحذرنا بطريقة غير مباشرة من الوقوع في شرك تقديس الأنبياء والرسل، وألا نسقط عنهم بشريتهم، لأننا إن فعلنا ذلك وقعنا في فخ الشِرك بالله. 

فقد أرسل الله الرسل بمهمة عليهم إبلاغها وبرسالات أوحيت إليهم عليهم توصيلها لنا لأداء مهمتهم، بحسب ما قاله القرآن الكريم:

”يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُ“ (المائدة: ٦٧).

وهذا هو الدرس المستفاد من تدبر آيات سورة إبراهيم التي توقفنا عندها.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.