وهم النسيان

كر الأيام يُنسي.

كان هذا وهمي الذي راهنت عليه النفس عقب وفاة شقيقتي التي رحلت عنا في ٢٨ أغسطس من عام ٢٠٢١. وتوطدت نزل الحزن في قلبي أسابيع، بل شهورا، بعد أن فارقتنا ريحانة أسرتنا وضحكتها، وعولت في مواجهة صدمة الفراق على انكبابي على العمل وانغماسي في شؤون الحياة اليومية، إلى جانب القراءة التي كانت تُلهيني وقتا ثم أفيق على وخز الذكرى ساعات بعد ساعات.

كنت أتظاهر أمام أسرتي بأني تماسكت، حتى لا تخيم أجواء الأحزان على بيتنا. لكن كانت أقسى لحظاتي تلك التي أخلو فيها إلى نفسي حينما أتذرع بالوضوء وأحكم إغلاق باب الحمام ورائي. كان طيفك يلوح أمامي في المرآة كلما رأيت وجهي الكسير الذي شقق الهمُ قسماته، وكنت أستسلم للذكرى وتعاودني غصة حلقي، وتبلل عيني دمعة.

ومر عام واقترب عام آخر على نهايته. وعمدت فعلا إلى بعض هواياتي وقراءاتي حتى كدت أصدق أن ”كر الأيام يُنسي“.

ولكن ما حدث في عيد الفطر قبل أيام أكد لي أن القلب لما يزل منفطرا بفراقك.

فقد هاتفني ابنك ليهنئني بالعيد، وسعدت بالحديث معه. ثم شجع هو حفيدك عبد الرحمن، الذي كان يبكي، على الحديث معي قائلا له:

  • تحدث مع جدك فهو يريد التحدث معك.

ورحب بي الحفيد:

  • أهلا جدو. 

وسألته: 

  • هل تعرف من أنا؟ 

فقال في ثقة وبلا تردد: 

  • أنت جدو محمد. 

ثم فاجأني عندما قال بصوت طفولي حزين، وكأنه بحث عنك فلم يجدك أمامه في العيد:

  • نانا ماتت

صمتُ قليلا ثم تغافلت عما سمعت، إذ أحسست وكأن كل حرف في كلمته الصغيرة سكين يطعنني. وساورني شعور غريب لثوان، فحسبت أنه لا يشير إليك، لكني تبينت أن تلك رغبتي وأملي الذي لم يتحقق. وظن عبد الرحمن أني لم أسمعه، فأعاد بيان الموت القاسي على سمعي مرة أخرى:

  • نانا ماتت

فقلت له: الله يرحمها

وساءلت نفسي كيف عرف هذا الطفلُ الصغير، الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، الموت؟ أم هي تجربة الكبار نقلوها إليه شفاهة، فظل هو يرددها كلاما دون أن يرسخ معناها في قلبه الغض؟ 

وقعُ كلمته الصغيرة ”ماتت“ كان شديد القسوة على نفسي، وأحسست كأني أدرك معنى الكلمة الحقيقي المفجع لأول مرة في حياتي. وتعجبت: أليس ثمة كلمة أخف وطأة من تلك؟ 

وهنا تذكرت زوجتي التي فقدت والدتها منذ أكثر من اثني عشر عاما، بيد أنها لما تزل تعيش في مرحلة نكران الواقع الأليم. وهي لا تحب أن تسمع تلك الكلمة في سياق مرتبط بوالدتها. وهي ما زالت تشير إلى أمها بصيغة المضارع، فتقول أمي تقول .. وأمي تذهب وتجيء .. وأمي تعرف كذا وكذا.

في لغات البشر كلمات أخرى غير مباشرة تعبر عن تلك الحقيقة القاسية بالنسبة إلينا نحن الأحياء، حقيقة ”الموت“. ومن ذلك في العربية ”رحل/رحلت عن عالمنا“، و”توفي فلان/توفيت فلانة“، ”انتقل/انتقلت إلى رحمة الله“، و”انتقل إلى الرفيق الأعلى“، و”لبَّى نداء ربه“. وفي ثقافتنا الشعبية كلمات يستخدمها بعضنا مع أطفالهم في هذا السياق، للإشارة إلى من ”مات“، مثل ”سافر/سافرت“، أو ”راح/راحت لربنا“ أو”راح/راحت الجنة“. وكل هذا يندرج تحت باب التورية نظرا لفداحة كلمة ”مات“ المباشرة.

ومن هذا الباب في اللغة الإنجليزية استخدام فعل ”pass away“ بدلا من ”die“، ويندرج هذا تحت باب التورية أو ”euphemism“. 

وكم أرجو أن ينتبه الآباء والأمهات إلى الكلمات التي يرددونها أمام أبنائهم وبناتهم، وأن يلجؤوا إلى التورية بدلا من الكلمات المباشرة، حتى لا يفجعَ الصغارُ الكبار بكلمات يرددونها ولا يعرفون مدى تأثيرها، كما حدث معي.

    

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.