فضفضة مكلوم: ٤ – الموت بين ألم الفقد وثقافة التخويف

فضفضة مكلوم: الموت بين ألم الفقد وثقافة التخويف

ليس في الموت أبدا أي شيء مفزع، لكن المرعب حقا هو ما نحيطه به في ثقافتنا. 

الموت صعب على الأهل والأقارب، وربما لذلك وصفه القرآن الكريم بتعبير ”مصيبة الموت“، بسبب لوعة الفقد، وغيبة المحبوب، ابنا، أو زوجا، أو أبا، أو جدا، أو أما، أو بنتا، أو زوجة، أو أخا، أو أختا، أو صديقا.

ولست أظن أن من حضره الموت يعاني قدر ما يتجرعه الأهل والأقارب والأصحاب من ألم الفقد.

ويجب أن نتوقف هنا عند استخدام القرآن لتعبير ”سكرة الموت“ عند الحديث عن الموت، وكأن من يلاقي الموت ليس في تمام وعيه، بل  في حالة سكر. ولعل هذا من نعم الله على بني الإنسان في الموت، كما هو الحال أيضا عند تعرض الإنسان لحادث ما، فهو غالبا ما يفقد الوعي فلا يشعر بالألم لبعض الوقت.

ومن يقرأ القرآن الكريم يدرك أن الجسد لا علاقة له بالموت، بل النفس هي التي تتذوقه، (كل نفس ذائقة الموت).

والأفعال التي يستخدمها القرآن مع ”الموت“ ربما تؤيد ما ذهبت إليه من تفسير لـ”سكرة الموت“. فالقرآن يتحدث عن الموت بأفعال مخصوصة، هي ”حضر“، و”لقي“، و”جاء“، و”أتى“. وليس في أي من تلك الأفعال فعل يدل على الشدة.

وربما يدعم ما أذهب إليه أيضا مشاهد العذاب في الآخرة، في جهنم حيث ”لا يموت فيها“، من يدخلها فيخفف الموت العذاب عنه، حتى يظل إحساسه بالعذاب دائما.

لكن الموت في ثقافتنا الشعبية شيء مرعب ومخيف. 

ويتمثل شيء من هذه الثقافة، ثقافة الرعب والتخويف في ميل كثير من الواعظين في بلادنا إلى ترهيب الناس وتخويفهم، وموضوعهم الأثير هو الموت والقبور. 

ويظهر كذلك في الأدعية التي يتناقلها الناس وينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي عند كل وفاة. 

ويدور معظمها تلك الأدعية على ما يتصور الناس حدوثه في القبر عقب دفن الميت مباشرة: من عودة للروح، ومن حساب سابق لأوانه المعروف بعد البعث، ومن تثبيت عند السؤال المتوهَّم له في القبر، ومن سيناريوهات خيالية يتحول فيها القبر إما إلى حفرة من حفر النار، وإما إلى روضة من رياض الجنة، وما يصاحب ذلك من ظهور ثعابين ضخمة مخيفة في القبر، يعرف أحدها بالحنش الأقرع، وكأن هناك حنشا كث الشعر!

وكثير من هذا كله لا أساس له، في رأيي، في قرآننا العظيم.


اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

للمشاركة على :

اترك تعليقك

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.

اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading