تطبيقات التواصل الاجتماعي ليست شرا محضا

تطبيقات التوصل ليست شرا محضا

تطبيقات فيسبوك وتويتر ويوتيوب وانستجرام وغيرها، مما يعرف الآن بمواقع التواصل الاجتماعي، آخذة في نشر هيمنتها على مجالات لم تكن في بداية ظهورها تقترب منها. وأصبحت تؤدي أدوارا ما كان أحد يتوقع أن تنخرط فيها.

كانت تلك التطبيقات في بداياتها فعلا وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، يشترك فيها الناس ليكونوا على دراية بأحوال أقاربهم وأصدقائهم، وزملاء العمل، وليزيدوا رقعة تعارفهم بأصدقاء جدد.

وسيلة إعلام في جيبك

بيد أنها أضحت الآن تؤدي دور وسائل الإعلام: يكتب فيها ويغرد رؤساء ومسؤولون وسياسيون، فنعرف قراراتهم وأخبار بلدانهم بالصوت والصورة دون الحاجة إلى مذياع أو تلفاز. 

وهنا أخذت وسائل الإعلام الهرمة تتهافت على تلك التطبيقات للترويج لموضوعاتها ولما تنتجه من برامج، بل أصبحت تلك التطبيقات في أحايين كثيرة تقود ”الأجندة“ الإخبارية، وتهرول في ركابها وسائل الإعلام العجوزة، بموضوعات تافهة لا وزن لها إلا أنها راجت وذاعت وفرقعت على تلك التطبيقات، فتحرز بنشرها أعدادا أكبر من القراء، وعددا أكبر من المشاهدة أوالاستماع أو القراءة.

صفحة دعاية واجتماعيات ووفيات

وباتت تلك التطبيقات أيضا وسيلة تعارف بين مستخدميها، وربما وسيلة دعاية للراغبين في البيع أو الشراء أو حتى الزواج، وصفحة اجتماعيات للمهنئين بالمناسبات الاجتماعية والدينية وأعياد الميلاد.

وأخذت في الفترة الأخيرة تحل محل صفحة الوفيات في الصحف، وأصبحت سرادق عزاء يُستقبل فيه المعزون عن بعد ليشاركوا أسرة المتوفَّى أحزانه.

دار نشر مفتوح

ومن حسنات تلك التطبيقات أنها باتت منبرا مفتوحا للنشر أمام النشطين في قضايا السياسة والاجتماع، والمبدعين من كُتّاب ورسامين وموسيقيين، يشاركون فيها الناس بحملاتهم ودعواتهم وإبداعاتهم وأفكارهم، بلا قيود تقريبا، وبلا رسوم أو شروط. 

وإن كان المنبر كالسوق يضم صنوف بضائع شتى منها الغث ومنها الثمين، لكن قرار الخيار في نهاية المطاف موكول بإرادة المشتري وحده.  

بيد أننا لا ينبغي لنا ألا ننسى أن تلك التطبيقات من أسف نتاج مجتمع غربي تشجع وتروج لما يؤمن به من قيم، وما يتبناه من تقاليد وعادات، وما يتخذه من سياسات تتسم بقدر من الاستعلاء على الآخرين. وهي لذلك ليست نافذة حرة تماما كما قد يتخيل بعضنا. بل قد تكون جدار صد أحيانا أمام دعوات بعض المنادين بحقوقهم وحرياتهم من شعوب العالم غير الغربي.

وسيلة “تباعد” اجتماعي

ومن سوءات تلك التطبيقات أنها صارت وسيلة، في كثير من الحالات، لنشر خطاب الكراهية والتمييز تجاه بعض الطوائف والجماعات في أنحاء العالم. ونتيجة لذلك تنتشر ترهات وأكاذيب على صفحاتها قد يصدقها عدد من الغافلين من الجماهير، وقد تفضي إلى اندلاع أحداث غير محمودة العواقب.

وهكذا تغير الدور الأساسي لتلك التطبيقات، فلم تعد وسيلة تواصل اجتماعي – كما هو حالها الآن – بل ربما أصبحت وسيلة تباعد اجتماعي على مستوى عدد كبير من مستخدميها، حتى داخل الأسرة الواحدة. إذ تجد أفراد الأسرة وقد انكب كل منهم على هاتفه أو جهازه اللوحي ”الذكي“، منهمكين في دردشات مع مجموعات مختلفة عن بعد، ولا يلقون بالا أبدا ربما لساعات لمن يجلسون بجانبهم كتفا لكتف. 

وهكذا أيضا يقضي مستخدمو تلك التطبيقات ساعات طوالا في تصفحها، منعزلين عن غيرهم. ولم يعد لدى كثير منهم وقت للقراءة والتعلم والثقافة.

وبالرغم من ذلك كله، فمازلت أرى بعض الخير في تلك التطبيقات إن أحسن كل منا استخدامها، فهي ليست شرا محضا.     

    

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.