لغة الإعلام: “جيش الرئيس وقوات النظام”

لغة الإعلام غير محايدة

ما الجيش العرمرم الذي يملكه شخص واحد وينسب إليه؟

ليس هناك وسيلة إعلام محايدة أو بريئة.

وإن دققنا النظر وبحثنا بأناة في الطرق التي تصوغ بها وسائل الإعلام الأخبار تكشفت لنا حقائق وبانت لنا أضاليل قُدمت في لفافات لغوية زاهية المنظر، لكن محتواها مليء بالسم.

ولعل أخطرَ ما تفعله وسائل الإعلام هو تكرار الأخبار صباح مساء وتردادُها كل يوم حاملةً صياغات تسعى من وراء إعادتها مرات ومرات إلى تثبيتها في عقول الجماهير، ويجب أن ننتبه إليها ونمحصها وأن نقرأها بعقل واع بصير.

وهذا ما أحاول هنا أن ألفت إليه الانتباه، حتى لا نكرره، فنُدعّمَ الرسالة المستهدفة من ورائه في أذهاننا دون أن ندري.

يذكرني حال وسائل الإعلام الغربية هذه الأيام بمثل شعبي مصري يقول: ”الزنّ على الودان (أي الآذان) أقوى من السحر“.

وفحوى المثل هو أن لكثرة تكرار الكلام وترداده على مسامع الناس كل يوم صباح مساء تأثيرا يفوق تأثير السحر، أو هو – بحسب رواية أخرى للمثل – ”أمَرُّ“ من السحر.

ولا يغيب عن فطنتكم أن المقصود من وراء المثل هو تأثر السامعين الشديد بما يكرر على مسامعهم ليل نهار، فيصدقونه دون أن يمحصوه أو يدققوا في تفاصيله، ويقبلوه كما هو، وكأنهم مسحورون لا حيلة لهم ولا إرادة.

وهذا – في رأيي مع الاعتذار للمرأة – هو حال بعض النسوة من صنف ”الزنّانات“ اللاتي إن أردن الوصول إلى شيء شهرن سلاح ”الزنّ“ حتي يحققن مأربهن.

وبـ”الزنّ“ تتحقق المآرب في كثير من الأحيان.

طنطنة وسائل الإعلام:

وهذا أيضا ما يفعله كثير من وسائل الإعلام خلال فترات الحروب والحمْلات السياسية بوجه خاص.

إذ تصبح تلك الوسائل في تلك الأوقات وسائل طنطنة، أو وسائل ”زنّانة“، تعيد وتكرر ما تريد تثبيته في أذهان الجمهور، حتى وإن خالف الحقيقة أحيانا مادام يتماشى والاتجاه الذي تتبناه الوسيلة الإعلامية.

ولا يسلم من ذلك شرقيُ تلك الوسائل ولا غربيُها. وهذا ما نعايشه هذه الأيام مشاهدة وسَماعا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.

ومازل بعضنا يذكر بلا شك حربَي الخليج الأولى والثانية والحملتين اللتين سبقتهما لتمهدا العقولَ في منطقتنا العربية للحشود التي كانت تتهيأ والمعدات العسكرية التي كانت تُجهز لدخول الكويت في الأولى، ولانتهاك أراضي العراق في الثانية ثم احتلالِه.

ولم تتوان وسائل الإعلام الغربية في طنطنتها للحملة المستعرة وقتها وللحرب المقبلة على الأبواب، لأنها – كما تقول – تؤدي دورها في ”تغطية الأخبار“.

وظلت تلك الوسائل تكرر كل يوم على مسامع الجماهير عبارات سبكتها بعناية من أجل تثبيت رسالة مقصودة في العقول.

وكان من أهم تلك العبارات المسبوكة عبارة:

”نظام صدام حسين – Saddam’s regime“ 

و”جيش صدام حسين – Saddam’s army“، 

أو ”قوات النظام – regime’s forces“

وهذا نفسه لما يزل يتردد بشأن الحرب في سورية والحديث عن:

”نظام بشار الأسد – Assad’s regime“،

و”جيش بشار الأسد – Assad’s army“،

أو ”قوات النظام – regime forces“.

ووراء هذه التعبيرات والطنطنة بها صباح مساء رسالة لا تخفى على الكثيرين، ألا وهي وصم اسم الرئيس العراقي ”صدام حسين“ والرئيس السوري ”بشار الأسد“، في أذهان الناس، بأنه زعيم مستبد.

وهكذا أيضا تصف وسائل الإعلام الغربية صورة زعماء الدول الأخرى غير الحليفة للغرب جميعا، مثل روسيا، وإيران، وفنزويلا، وكوبا، وكوريا الشمالية، وتصمها في أذهان جمهور القراء والمشاهدين والمستمعين، بأنهم حكام مستبدون.

وهكذا أيضا تصف وسائل الإعلام الغربية صورة زعماء الدول الأخرى غير الحليفة للغرب جميعا، مثل روسيا، وإيران، وفنزويلا، وكوبا، وكوريا الشمالية، وتصمها في أذهان جمهور القراء والمشاهدين والمستمعين، بأنهم حكام مستبدون.

ملاك ضيعة:

وتصور وسائل الإعلام الغربية هؤلاء الزعماء وكأنهم مُلّاك ضيعة: يملكون الأرض وما عليها ومن عليها، فجيش الدولة لا يُنسب إلا إليهم (جيش صدام، وجيش بشار) وقوات الحكومة هي قوات شخصية لهم.

كما أن تلك الوسائل لا تفوت فرصة إلا وتكلمت فيها عن حكومات سورية أو العراق، أو إيران أو غيرها، ليس بوصفها حكومات، ولكن بوصفها ”نظاما“.

وكلمة ”نظام“ ترجمة للكلمة الإنجليزية (regime). وتستخدم هذه الكلمة في اللغة الإنجليزية وصفا للحكومة أو طريقة الحكم التي بلغت السلطة بانتخابات غير نزيهة.

وتتردد الكلمة في تعبيرات كلِها سيئة، مثل:

Fascist regime = نظام فاشي

Totalitarian regime = نظام شمولي

Military regime = نظام عسكري

Oppressive regime = نظام جائر

Brutal regime = نظام قاس

ولا يعنيني هنا حقيقة هؤلاء الحكام الذين تصفهم وسائل الإعلام الغربية بهذا الوصف، بالنسبة إلى شعوبهم. فهذا موقف سياسي لست بصدد الخوض فيه هنا، إذ إن همي الأول هو كشف صياغة وسائل الإعلام للأخبار بطريقة غير محايدة متعمدة.

لكن ما يهمني حقيقة هو بيان تصوير وسائل الإعلام الغربية لزعماء تلك الدول غير الحليفة في صور بعينها، والطنطنة و”الزنّ“ بتعبيرات تحمل تلك الصور المتعمدة ليل نهار حتى ترسخ في عقول الناس. ثم يتبادلها الناس فيما بعد فيما بينهم وكأنها ”حقيقة صادقة!“.

وحتى تتبين لك حقيقة الانحياز المقصود فيما تردده وتشيعه وسائل الإعلام تجاه هؤلاء الزعماء، طالع مثلا أخبار الولايات المتحدة، (أو بريطانيا أو أوروبا الغربية) في أي شبكة إعلامية غربية، وفتش فيها وقل لي: هل ترى فيها وصفا للجيش الأمريكي بأنه جيش چو بايدن (Biden’s army)، أو دونالد ترامب من قبله. أو هل تري وصفا للحكومة الأمريكية بأنها ”نظام“ بايدن (Biden’s regime)، أو ”نظام“ ترامب من قبله؟

أكاد أجزم أنك لن تجد مثلَ تلك العبارات صفةً للقوات الأمريكية أو لجيوش الولايات المتحدة في شبكات الإعلام الغربية.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.