هل يمكن أن يتوقف تدمير سلاح على من يملكه؟ وإلامَ يشير تعبير ”أسلحة الدمار الشامل“؟
من بين الصياغات السياسية الأخرى المضللة التي رددتها وسائل الإعلام وشارك كثير من الصحفيين العرب ومواقع إخبارية في انتشارها خلال الحملة الأمريكية المسعورة على العراق تعبير”أسلحة الدمار الشامل“.
كان الرئيس الأمريكي، چورچ بوش، ورئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، قد هيأا العقول للغزو بادعاء امتلاك العراق – على حد قول بوش – ”أسلحة دمار شامل“ وتصنيعِها. كما اتَهم العراق بدعم جماعات إرهابية، من بينها تنظيم القاعدة، الذي تتهمه أمريكا بالضلوع في هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١.
وقد تبين بعد الحرب كذب الادعاء الخاص بأسلحة الدمار الشامل.
لكن علام يطلق هذا التعبير ”أسلحة الدمار الشامل“؟
أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذا التعبير هو الأسلحة النووية، لكن مفهومه الآن يتسع ليشمل الأسلحة الكيماوية والبيولوجية أيضا.
ويرجع تاريخ إطلاق هذا التعبير إلى فترة الحرب العالمية الثانية، وبخاصة عام ١٩٣٧. وأطلق في تلك الفترة على الطائرات الحربية القاذفة التي استخدمت في قصف القنابل، وهي تحلق على ارتفاع عال، مما أفضى إلى قتل كثير من المدنيين الذين لم يكن لهم يد في الحرب.
وورد التعبير أيضا في خطاب ألقاه الرئيس الأمريكي السابق كينيدي في سبتمبر عام ١٩٦٢ وتحدث فيه عن ضرورة عدم ملء الفراغ ”بأسلحة الدمار الشامل، بل بوسائل المعرفة والتفاهم“.
وخلال أزمة الصواريخ الكوبية عام ١٩٦٢ أشار كينيدي إلى تلك الصواريخ بوصفها ”أسلحة دمار شامل هجومية مفاجئة“.
ويجب أن ننتبه هنا إلى طريقة استخدام الخطاب السياسي الغربي لهذا التعبير ”أسلحة الدمار الشامل“. إذ إن تلك الطائرات القاذفة كانت في حوزة ألمانيا، التي كانت عدوا للحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية. كما كانت تلك الصواريخ التي أثارت أزمة كوبا، في أيدي الاتحاد السوڤييتي، وهو أيضا عدو للغرب.
وهذا يعني – بحسب الخطاب السياسي الغربي – أن أي سلاح خطير تمتلكه دولة غير حليفة للغرب، هو ”سلاح دمار شامل“.
انطبق هذا على الطائرات القاذفة الألمانية، وعلى الصواريخ السوڤيتية، وعلى الأسلحة الكيماوية والبيولوچية التي ادعى بوش وبلير كذبا امتلاكَ العراق لها قبيل غزوه.
وينطبق هذا أيضا على الأسلحة النووية التي إن حاولت أي دولة غير حليفة للغرب امتلاكها، فهي في أيديها ”سلاح دمار شامل“.
جميع تلك الأسلحة: الطائرات الحربية القاذفة، والصواريخ والمقذوفات الكيماوية والبيولچية والقنابل النووية في أيدي الدول غير الحليفة للغرب تصبح ”أسلحة هجومية“، وهذا هو أول ما يوحي به هذا التعبير ”أسلحة الدمار الشامل“، الذي يكرره الخطاب السياسي في الغرب وفي وسائل إعلامه.
ولا ينبغي لنا أن نغفل هنا أيضا الصورة الذهنية التي يُبرِز معالمَها التعبيرُ ”أسلحة الدمار الشامل“: صورةُ خرابٍ وحطام وبقايا وهدمٍ وركامٍ يعم المكان، وسُحبِ غبارٍ تغطي السماوات، وآلافٍ من الضحايا ملقون على الأرض، بعضُهم مصابون بحروق وبعضهم موتى، ومئاتٍ يهيمون على وجوههم في الشوارع في ملابس محترقة بين مبان مهدّمة غطى حيطانَها السواد.
هذه الأسلحة نفسها: النووية والكيماوية والبيولوچية تمتلك مخزونا كبيرا منها الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا الغربية.
لكن كيف يصف الخطاب السياسي الغربي ووسائلُ إعلامِه تلك الأسلحة عندما تكون في حوزة الدول الغربية، وهي في حوزتها فعلا، وكيف يتحدث عنها؟
هذه الأسلحة جميعا وهي في حوزة الدول الغربية تصبح ”أسلحة ردع“ في الخطاب السياسي الغربي.
وأول ما يوحي به تعبير ”أسلحة ردع“ هو أن تلك الأسلحة، في حوزة الدول الغربية، هي أسلحة حماية، وليست أبدا أسلحة هجومية.
وهذه هي الصورة الذهنية التي يكرسها تعبير ”أسلحة ردع“: صورة إنسان مسالم لكنه متأهب، بحوزته بندقية لحمايته من أي مهاجم.
وكأن الصورة تقول: إن ما يسعى إليه الغرب من وراء امتلاك مخزونات كبيرة من تلك الأسلحة هو فقط حماية بلدانه من أي هجوم خارجي. فتكديس تلك الأسلحة جميعا يهدف إلى ردع أي عدو تسوّل له نفسه يوما التفكيرَ في الهجوم. فوجودها في حد ذاته يجعل العدو يفكر مرة ومرة قبل أن يقدم على أي هجوم، لأنه يعلم أن الرد سيكون سريعا وحاسما.
لكن هذه الصورة التي يرسمها تعبير ”أسلحة ردع“ يكذبها التاريخ، وهجوم أمريكا على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بالقنابل النووية.
الأسلحة إذن هي هي، بيد أنها في أيدي الغرب – بحسب الخطاب السياسي الغربي – ليست سوى ”أسلحة ردع“.
لكنها الأسلحة نفسها تتحول إلى أسلحة هجومية و”أسلحة دمار شامل“ عندما تكون في أيدي من يتخذهم الغرب ”أعداء“.
وطبقا لهذا الخطاب السياسي الذي يروجه الغرب ووسائل إعلامه، انقسم العالم إلى قسمين:
أولا: الغرب وحلفاؤه
ثانيا: أعداء الغرب
وعندما يكون السلاح في أيدي الغرب، أو حلفائه، فهو سلاح حماية.
أما إذا وقع في أيدي أعداء الغرب، فهو ”سلاح دمار شامل“.
نحن إذن أمام نموذج صارخ في الخطاب السياسي الغربي لازدوجية اللغة، حينما يكون المسمى واحدا، بيد أن له اسمين: اسم بعينه إن كان الحديث عن الغرب، واسم آخر إن كان الكلام عن أعداء الغرب.
وهناك أمثلة أخرى منتثرة في وسائل الإعلام الغربية، ونستطيع من خلالها معرفة التوجه الأيديولوچي للوسيلة التي تستخدمها. من ذلك مثلا: فعل مقاومة الاحتلال، فهو مرة ”مقاومة“ ومرة أخرى ”إرهاب“.
ووصف المدافع عن قضية أو مبدأ أو أرض، متى يكون ”فدائيا“، ومتى يكون ”مقاتلا“، أو ”مسلحا“، أو ”إرهابيا“.
ولماذا نصف معتقلا مرة بأنه ”أسير“، ومرة أخرى بأنه ”سجين“ أو ”محتجز“.
وكيف تصف معركة بين محتل ومقاوم، هل هي ”معركة“، أو ”اشتباك“، أو”مواجهة“، أو ”مناوشة“؟
هذه الازدواجية اللغوية سمة الخطاب السياسي الذي يصفه علماء اللغة بأنه خطاب أيديولوچي.
فما هو هذا الخطاب الأيديولوچي؟ وما أهم سماته، وما علاقته بخطاب الكراهية؟
هذا ما سأتناوله في مقالة آخرى.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.