كان العرب قبائل وما زالوا.
ويتجلى ذلك في السياسة وفي الإعلام وحتى في اللغة.
فكم يزهو بعض العرب بلهجاتهم ويتباهون بأنها أقرب اللهجات إلى الفصحى، وأن ما عداها عاميات لا تربطها باللغة العربية الفصيحة رابطة.
وسمعت صديقا يعاتب آخر ذات مرة لأنه يستخدم في كلامه الفصيح الجيم ”المصرية“.
وقرأت في بعض مواقع الإنترنت شيئا شبيها بهذا في حديث عن طرق كتابة الياء المتطرفة، فيه تشهير ”بمصريّتها“ لأن المصريين يكتبون تلك الياء بلا نقطتين تحتها.
وكان آخر مظاهر تلك القبلية اللغوية، ما قرأته في أحد المواقع ويتعلق بكتابة كلمة ”مسؤول“ و”مسئول“ بطريقتين مختلفتين. ويسمي كثير من المواقع الطريقة الأولى بالشاميّة، بينما يصف الثانية بالمصرية.
ولو تأنَّى هؤلاء جميعا لعرفوا أن اندفاعهم إلى مثل تلك الأحكام إنما هو نوع من القبلية، لا سند علميا له.
لا لهجة أقرب إلى الفصحى من أخرى
فليس هناك لهجة عربية أقرب دون غيرها إلى الفصحى، بحسب ما تقتضيه قواعد علم اللغة. إذ إن تلك اللهجات جميعا ليست سوى روافد للغة العربية الفصحى نبعت منها. لكنها تعرضت في بيئاتها الجغرافية، كل منها على حدة، إلى عناصر لغوية محلية مختلفة أثرت فيها، وصبغتها بخصائص خاصة أبعدتها عن النبع الأول.
فكان منها ما تأثر بعناصر فارسية، أو تركية، أو أمازيغية، أو فرنسية، أو إنجليزية، أو إيطالية، أو قبطية، أو أفريقية، وهكذا.
وتنطبق تلك الصبغة المحلية للهجات على جانبها الصوتي في نطق المفردات، وعلى جانبها الصرفي في صيغ الكلمات، وعلى جانبها النحويّ في تراكيب الجمل، وعلى دلالات ألفاظها.
ففي اللهجات عناصر تشترك فيها مع الفصحى، لكن بها أيضا جوانب تخالف الفصحى.
صوت ”الجيم“ العربي
أما صوت الجيم العربي فمن الظلم وصفه ”بالمصري“، إذ إن هذا النطق الذي ينطقه به أهل مصر، هو الصوت العربي الأصلي، الذي ينحدر عن اللغة السامية الأم. واللغة العربية لغة سامية، مثل العبرية، والآرامية، والأمهرية وغيرها، ولا يعرف فيها جميعا سوى صوت الجيم التي تماثل نطق الصوت الإنجليزي (g) في كلمة (garden).
ثم تسلل صوت آخر إلى العربية في مرحلة تاريخية لاحقة من الفارسية – بحسب وجهة نظري – هو صوت الجيم الذي يصفونه بالمعطشة، ويشبه الصوت الإنجليزي (j) في كلمة (jasmine). ولم يقض الصوت الدخيل على الصوت الأصلي ولكنه زاحمه. وظل الصوتان يتعايشان في العربية. بل إن صورا صوتية أخرى للجيم، منها نطقها كصوت شبيه بالياء، ظهرت في مناطق محددة من الخليج إلى جانب هذين الصوتين الأساسيين.
”الياء“ في آخر الكلمة
ولم يكن في العربية سوى حرف ياء واحد، كان يكتب بطرق مختلفة بحسب موقعه في الكلمة. ولم يظهر أي خلاف في كتابة الياء في بداية الكلمة ووسطها، إذ كتبت ولما تزل تكتب بنقطتين من تحتها.
إما إن وقعت الياء في نهاية الكلمة، فإنها كانت تكتب خالية من هاتين النقطتين.
كانت هذه هي أحوال حرف الياء في العربية. وعلى هذا النحو كتبت الياء في رسم المصحف.
ولم يكن ثمة فرق أبدا في الكتابة بين الياء المسبوقة بالفتحة، كما تظهر في حرف الجر ”علَى“، والياء المسبوقة بالكسرة، كالحرف الأخير من اسم العلم المعروف”علِىّ“.
ومع غياب علامات التشكيل في الكتابة، وتبني هذا النهج في الصحف والمجلات والكتب ومعظم الكتب المدرسية، لم يعد يوجد في الكلمة – إن نحينا سياق الكلام وتركيب الجملة جانبا – ما يساعد الناطقين بالعربية على التفرقة بين اسم العلم ”على“ وحرف الجر ”على“.
وبدلا من تبني الحل الواضح الذي يساعدنا في التفرقة، ألا وهو التمسك بكتابة الفتحة أو الكسرة قبل الياء العربية، رأى قوم إضافة حرف جديد إلى الأبجدية العربية، وهو الياء التي تحتها نقطتان في نهاية الكلمة، إلى جانب الياء الأصلية.
وسوف أتناول تلك الياء وكيف تسللت إلى العربية في مقالة أخرى، إن شاء الله.
ولم يعرف العرب انتماء الياء الأصلية إلى قبيلة أو قوم أو جنسية بعينها، إذ كانت ومازالت عربية، وما كانت أبدا مصرية وما أسبغ عليها ذلك الوصف إلا مندفعون ما فتئت القبلية تحركهم.
”مسئول“ أرجح من ”مسؤول“
أما الهمزة المتوسطة في كلمة مثل ”مسئول“ فعرف العرب لها طريقة واحدة في الكتابة بوضعها على نبرة. وتبنى هذه الطريقة في الكتابة رسم المصحف. ولم تلحق بأي جنسية، أو قبيلة.
لكن عرفت طريقة ثانية في كتابتها في مرحلة أخرى لاحقة، بجعل كرسيها على ”الواو“.
ويبدو أن كلتا الطريقتين كانتا معروفتين خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) حينما كتب ابن قتيبة الدينوري الفارسي الأصل، العراقي المولد كتابه (أدب الكاتب). إذ وصف الطريقة الأولى بـ”هذا الذي عليه المصحف، ومقدمو الكتاب“. ووصف الثانية بالحسنة.
ولكن هل هناك ما يرجح إحدى الطريقتين على الأخرى؟
ذكر بعض العلماء أن ما يرجح ”مسئول“ على ”مسؤول“ هو قاعدة كراهية توالي الأمثال في كتابة العربية. فلا ينبغي لنا نبذ إحداهما لأنها ”مصرية“، وتبني الأخرى لأنها ”شامية“.
كل هذا قبلية ”لغوية“ بغيضة يجب أن ننأى باللغة عنها.
مرتبط
اكتشاف المزيد من أَسْرُ الْكلام
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.