يوميات صائم: “لا يمسه إلا المطهرون”

يوميات صائم

أنزل الله تعالى القرآن الكريم وأرشدنا فيه إلى طريقة التعامل معه.

والقرآن العظيم كتاب هداية ينبغي لنا الاستهداء به في مناحي حياتنا جميعا. وحتى نستهدي به علينا قراءته وتدبر آياته والتمعن في معانيها.
ومن بين الآيات التي تكتب وتتردد هنا وهناك آية سورة الواقعة ”لا يمسه إلا المطهرون“.

فهل المقصود بالآية الكريمة ألا يمس المصحف إلا طاهر؟ وما نوع
الطهارة المبتغاة، هل هي طهارة الجسم أم الطهارة من الدنس؟

هذه الآية جزء من آيات أربعة هي:

إنه لقرآن كريم (٧٧) في كتاب مكنون (٧٨) لا يسمه إلا المطهرون (٧٩) تنزيل من رب العالمين (٨٠)

هذه الآيات جواب قسم جليل من الله تعالى (فلا أقسم بمواقع النجوم) على رفعة قدر هذا الكتاب المتلو ”إنه لقرآن كريم“، المحفوظ في كتاب مصون.
فهل يشير تعبير ”الكتاب المكنون“ هنا إلى اللوح المحفوظ الذي كان يحفظ فيه القرآن الكريم قبل تنزيله، أم إلى المصحف الذي بين أيدينا؟

من صفات هذا ”الكتاب المكنون“ أنه لا يمسه إلا المطهرون.

وهذه الجملة جملة خبرية تذكر صفة من صفات الكتاب، ألا وهي أنه ”لا يمسه إلا المطهرون“. لكن هل المقصود بهذا الإخبار النهي؟ أي لا ينبغي لأحد أن يمسه إلا إن كان مطهرا؟

ثم تمعنوا معي في استخدام الآية الكريمة للفظ ”يمسّ“ مع ”المطهرون“. ولماذا لم تستخدم الآية لفظ ”يلمس“؟

الفرق الجوهري بين المس واللمس هو أن اللمس في غالب الأحيان يكون باليد، أما المس فلا يقتضي هذا بالضرورة، إذ إننا نصف المجنون بأنه أصابه ”مس“.

ولاحظوا كذلك استخدام لفظ ”المطهرون“ الذي جاء على صيغة اسم المفعول (مُطهّر- مُطهّرون) أي الذين طهرهم غيرهم، ولم يقل سبحانه وتعالى (الطاهرون) أي المعروفون بالطهارة، أو (المتطهرون) أي الذين يسعون إلى فعل الطهارة بأنفسهم. فهل ينطبق هذا الوصف يا ترى على البشر الذين يتعاملون مع المصحف صباح مساء ويلمسونه بأيديهم، أم هو وصف لملائكة طهرهم الله تعالى من كل دنس ولا نعرف لهم أيدي يلمسون بها الكتاب؟

وفي الآية الرابعة استكمال لأوصاف القرآن الكريم بأنه ”تنزيل من رب العالمين“. فهل تعني كلمة ”تنزيل“ في هذا السياق إتمام مراحل القرآن، الذي كان من قبل محفوظا في كتاب مصون، لا يمسه إلا ملائكة مطهرون من أي دنس أو رجس، بتنزيله على محمد عليه السلام ليبلغَه للناس؟

أم أن هذا الوصف ”تنزيل من رب العالمين“ وصف للقرآن الذي نتلوه ولرفعة قدره لأنه من رب العالمين؟

ثمة احتمالان في تفسير آية (لا يمسه إلا المطهرون) الكريمة:

أولهما أنها وصف للكتاب المكنون الذي كان يحفظ فيه القرآن الكريم، والجملة فيها تدل على محض الإخبار، أي أن هذا الكتاب المكنون لا يمسه بالفعل إلا كائنات مطهرة طهرها الله تعالى من كل دنس، وهذا هو الذي نزّله رب العالمين على قلب نبينا الكريم عليه السلام.

أما الاحتمال الثاني فهو أن يكون المراد بالكتاب المكنون المصحف، بل المصاحف، التي نقرأ فيها آيات الله، وأن جملة ”لا يمسه إلا المطهرون“ جملة خبرية، لكن المقصود من ورائها النهي. أي لا ينبغي لأحد أن يمس المصحف إلا وهو طاهر.
ولكن هل هذا نهي يمكن الوفاء به، ونحن نتعامل مع المصحف قراءة ودرسا وشرحا وتفهيما وتعلما وتعليما وأحيانا قسما في المحاكم؟

ولا ننسى أن الله تعالى، منزل القرآن الكريم، يسره لمن يريد تلاوته أو قراءته أو تدارسه. وقال في سورة القمر (آية ١٧) ”ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر“، وهو أيضا الذي حدث نبيه الكريم في سورة طه (آيه ٢) ”ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى“.

ومهما كان الرأي الذي تميلون إليه في تفسير الآية الكريمة، فلا ينبغي لنا أن نغفل أبدا جلال المصحف الذي يضم بين دفتيه كلام الله تعالى وضرورة إجلاله عند تناوله إما للقراءة وإما للدرس، وإما للحفظ وإما للتلاوة. وأقل ما يجب توفره هو الطهارة الجسدية.

وكل عام أنتم بخير
ورمضان كريم

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.