الاسم المنقوص وحكاية شارع في القاهرة

الاسم المنقوص وحكاية شارع في القاهرة

كنت أتجول في القاهرة قبل سنوات وغالبا ما يلفت انتباهي في تجوالي اللافتات وأسماء المحال والشوارع. واعتدت أن أدون وأصور بعض ما أراه، واستخدمه في تدريسي لمادة التطبيقات النحوية والصرفية في قسم اللغة العربية بكلية البنات في جامعة عين شمس. 

ولفتني في شارع القصر العيني اسم شارع متفرع منه فصورته. وهذه هي الصورة. 

هل لاحظتم أيَ خطأ في اسم الشارع؟

ذكرني بهذه الحكاية، التي سأعود إليها في نهاية الڤيديو، سؤال من صديقة عزيزة، فحواه:

هل جمع مغني مغنيين أم مغنين؟

ما رأيكم؟ وأي الصيغتين هي الصيغة الصحيحة لجمع الكلمة؟ 

وكيف نبرر صحة الصيغة التي سنختارها؟

سأحاول معكم الإجابة عن هذه الأسئلة بطريقة مبسطة فيما يلي.

تعالوا أولا نستخدم كلمة مغني، وهي الصيغة المفردة في بعض الجمل، فنقول، مثلا:

١- المغنِّي مشهورٌ بين الشباب

٢- قابلت المغنِّيَ بعد حفلته

٣- استمعت إلى المغنِّي باستمتاع

من الواضح إن كلمة المغني في الجملة الأولى مبتدأ لأننا بدأنها الجملة بها، وهي مرفوعة، وخبر المبتدأ مشهور، وهو مرفوع أيضا.

لكن لماذا ظهرت علامة الرفع بجلاء على نهاية كلمة مشهور، ولم نضع أي علامة على نهاية كلمة (المغنِّي)؟

سبب ذلك هو الحرف الأخير في الكلمة وهو (الياء)، وهو صوت مد طويل، أي كسرة طويلة.

وحروف المد في العربية (ا، و، ي) هي رموز لحركات طويلة، ولما كانت الضمة، وهي علامة الرفع التي من المفترض وضعُها على نهاية كلمة (المغنِّي) هي أيضا حركة من الناحية الصوتية، تعذر وضعها فوق الياء، لأنه فعلا يتعذرُ على المتكلم نطقُ الضمةِ بعد الكسرة الطويلة.

ولذلك نقول في إعراب كلمة (المغني) إنها مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على الياء منع من ظهور نطقها التعذر.

وتعذر النطق أيضا يحول دون ظهور كسرة الجر في نهاية كلمة (المغنِّي) في الجملة الثالثة:

٣- استمعت إلى المغنِّي باستمتاع

ولا بد أنكم عرفتم الآن أن سبب ذلك هو أن كسرة الجر حركة قصيرة، والياء الواقعة في نهاية كلمة (المغنِّي) حركة طويلة ويتعذر نطق الحركة في ذيل الحركة حتى وإن كانت من جنسها.

لكن ماذا حدث في الجملة الثانية؟

٢- قابلت المغنِّيَ بعد حفلته

كلمة (المغنِّي) في هذه الجملة لا تنتهي بكسرة طويلة، مثل الجملتين الأولى والثالثة، بل تنتهي بياء، وهو صوت صامت (consonant). والكلمة في الجملة مفعول به منصوب. وحركة النصب، وهي الفتحة ظاهرة، ولا يوجد أي تعذر صوتي في نطقها عقب الياء، وهذا واضح في نطق الجملة (قابلت المغنِّيَ بعد حفلته).    

نستطيع أن نلخص الكلام حتى الآن في عبارة بسيطة، فنقول:

كلمة (المغنِّي) لا تظهر على آخرها علامة إعراب في حالتي الرفع والجر لتعذر النطق. لكن علامة النصب تظهر وتكتب على آخرها.

وهذا النوع من الأسماء المنتهية بياء المد، مثل المغنِّي والمحامي  والساعي والرامي، تعرف في اللغة بالأسماء المنقوصة. 

لكن لماذا سميت بهذا الاسم؟

الأسماء المنقوصة هي أسماء ينقص منها، أو يتآكل، الحرف الأخير في حالات معينة.

ولا يحدث هذا النقص أو التآكل إلا عندما يكون هذا النوع من الأسماء نكرة، أي غير معرف بلام التعريف، وغير مضاف إلى اسم معرفة.

وحتى نرى ما يحدث في تلك الأسماء تعالوا نعود إلى الجمل الثلاثة السابقة ونستخدم كلمة (مغني) بدلا من (المغني)، فنقول:

١- هذا (مغنِّي) مشهورٌ بين الشباب

٢- قابلت (مغنِّي) بعد الحفلة

٣- استمعت إلى (مغنِّي) واحد باستمتاع

فماذا يحدث عند تطبيق قواعد اللغة على الكلمة بعد أن أصبحت نكرة؟

١- هذا (مغنّي) + علامة الرفع + تنوين التنكير

هنا سنواجه المشكلة نفسها التي واجهناها من قبل وهي تعذر نطق حركة الضمة وهي علامة الرفع بعد الكسرة الطويلة المتمثلة في الياء في نهاية الكلمة. 

ثم يجب أن نضيف التنوين الذي هو علامة الاسم النكرة.

يوجد في نهاية كلمة (مغنِّي) ثلاثة عناصر مهمة هي:

  • (ي) ياء المد (أو الكسرة الطويلة) وهي الحرف الذي تلحقه علامة الإعراب
  • (ـُـ) الضمة وهي علامة الإعراب
  • (ن) نون التنوين وهي علامة التنكير

وبوجود هذه العناصر الثلاثة أصبح لدينا مشكلتان: 

الأولى: مشكلة تعذر نطق علامة الرفع مع وجود ياء المد الطويلة، التي رأيناها في كلمة (المغني) المعرَّفة باللام.

الثانية: مشكلة تتابع ساكنين، أي ياء المد الطويلة، وهي تعامل معاملة الأصوات الساكنة، ونون التنوين، وهي أيضا صوت ساكن. وسبق أن أشرت إلى أن علماء الأصوات العرب ينظرون إلى أصوات المد الطويلة بوصفها أصواتا ساكنة، أي تماثل في سلوكها الصوتي سلوك الأصوات التي لا تليها حركة. وقد شرحت هذه النقطة في حلقة من حلقات (التقاء الساكنين في العربية).

فكيف سنواجه المشكلتين؟

يكمن الحل في الاستغناء عن بعض العناصر التي يسبب وجودُها مشكلة والتي يمكن فعلا الاستغناء عنها.

أهم العناصر الثلاثة التي أشرتُ إليها نونُ التنوين، لأنها هي العلامة على أن الكلمة نكرة. وهذا يعني أننا لا نستطيع حذف هذه النون.

أما الياء (الحرف الأخير) في نهاية الكلمة، فيمكن حذفها، لأن لدينا ما يدل عليها إن حُذفت، وهو الكسرة السابقة.

مُـغَـنِّــي + ــُـ  + نْــ تصبح = مُـغَــنـِـ + ــُـ + نْــ

لكننا إن حذفنا الياء، أي الحرف الأخير في الكلمة، أصبح لدينا في نهاية الكلمة كسرة هي العلامة الدالة على الياء المحذوفة، تتبعها ضمةٌ هي علامة الإعراب، تتبعهما نون التنكير. وتتابع حركتين مختلفتين تتابع صوتي يتعذر نطقه في العربية، ويجب التخلص من إحدى الحركتين: إما الكسرة، وإما الضمة. 

ولكنا لن نستطيع التخلص من الكسرة لأنها علامة على الياء المحذوفة، ولذلك يجب حذف الضمة. ومسوغُ حذفِها هو أن موقع كلمة (مغنِّي) داخل الجملة يدل على إعرابها.

مُـغَــنـِـ + ــُـ + نْــ تصبح = مُـغَــنـِـ + نْــ = مُـغَــنـِـنٍ

بعد أن عرفنا التغييرات الصوتية في كلمة (مغنِّي) إلى أن أصبحت (مغنٍ)، نعود إلى سؤال الصديقة العزيزة عن جمع الكلمة:

هل نجمع (مغنٍ) على (مغنيين)، أم نجمعها على (مغنين)؟

الجمع الذي سألت عن تطبيقه على الكلمة هو جمع المذكر السالم. ولهذا الجمع لاحقتان معروفتان هما (ــونَ) ،(ــيـنَ) تلحقان الاسم المفرد:

(ــونَ) في حالة الرفع – اسم مفرد عاقل + (ــونَ) 

(ــيـن) في حالتي النصب والجر –  اسم مفرد عاقل + (ــيـنَ) 

فكيف نطبق ذلك على كلمة (مغنٍ)

أولا حالة الرفع: مُــغَــنٍ + ــونَ 

هنا نلاحظ أن محاولة إلصاق لاحقة جمع المذكر السالم الدالة على الرفع إلى كلمة (مغنٍ) ستؤدي إلى نشوء مشكلة صوتية. إذ أصبح لدينا هنا ساكنان متتابعان، هما نون التنكير وهي صوت ساكن،  والمد الطويل المتمثل في أول اللاحقة (ــون).

وللتخلص من تلك المشكلة يجب حذف أحد الساكنين. والساكن المرشح للحذف هنا هو نون التنكير، لأننا لا نستطيع حذف علامة الجمع بعد أن قررنا جمع الكلمة. فنقول:

مُــغَــنـِـ(نْ) + ــونَ تصبح = مُــغَــنـِـ + ــونَ

ثم نحذف الكسرة ونبدل بها ضمة حتى تناسب الواو التالية نطقا.

مُــغَــنـِـ + ــونَ تصبح = مُــغَــنـُـ + ــونَ  

ثانيا حالتا النصب والجر: مُــغَــنٍّ + ــيـنَ

أظن أنه يمكنكم الآن معرفةُ المشكلة التي تولدت بعد إضافة لاحقة جمع المذكر السالم (ــيــنَ). وهذه المشكلة هي نفسها التي واجهناها في حالة الرفع، ألا وهي تتابع ساكنين. ولحلها سنلجأ إلى حذف نون التنكير. 

مُــغَــنـِـ(نْ) + ــيـنَ تصبح = مُــغَــنـِّـ + ــيـنَ.

والآن أعود إلى الجمل الثلاثة التي نظرنا فيها معا في بداية هذا الڤيديو، لنضع كلمة (المغني) و(مغني) في صيغة الجمع.

ونبدأ بالاسم معرفا:

١- المغنِّي مشهورٌ بين الشباب = المغنون مشهورون بين الشباب

٢- قابلت المغنِّيَ بعد حفلته = قابلت المغنين بعد حفلتهم

٣- استمعت إلى المغنِّي باستمتاع = استمعت إلى المغنين باستمتاع

أما الاسم في حالة التنكير:

١- هذا مغنٍ مشهورٌ بين الشباب = هؤلاء مغنون مشهورون بين الشباب

٢- قابلت مغنِّيا بعد حفلته = قابلت مغنينَ بعد حفلتهم

٣- استمعت إلى مغنٍ باستمتاع = استمعت إلى مغنين باستمتاع

وعلى هذا النحو نصوغ المفرد والجمع في حالتي التعريف والتنكير من المحامي والساعي، والرامي، فنقول:

(محامي) = محامٍ – محامون، ومحامِينَ في حالة النكرة

(ساعي) = ساعٍ – ساعون، ساعين

(رامي) = رامٍ – رامون، رامين

(محامي) = المحامي – المحامون، المحامين

(ساعي) = الساعي – الساعون، الساعين

(رامي) = الرامي – الرامون، الرامين

ونعود مرة أخرى إلى اسم الشارع الذي تحدثت عنه في أول الڤيديو، لأقول إن الخطأ فيه هو الخطأ نفسه الذي في كلمة (مغنيين)، وإنّ الصواب هو (مغنين) و(مغنّون)، وشارع اتحاد المحامينَ.

وقد يكون السبب وراء هذا الخطأ في جمع الاسم المنقوص راجعا إلى اللهجات العامية.

وآمل أن نكون قد أدركنا معا أهمية الدور الذي يؤديه علم الأصوات في تفسير بعض القواعد التي ما كنا لنستطيع بيانَ ما حدث فيها من تغييرات لولا التحليلُ الصوتي.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.