يوميات زائر لمصر ”الجديدة“: ٤- مرتب عم حسن السائق

الشيخ زايد

فِى رحلة عودتنا من القاهرة ركب بجانبِى شخص وسيم يرتدِى تِى شرتا وبنطالا من الچينز. وعرفت من خلال حديثِى معه أنه أستاذ مساعد فِى كلية الهندسة بإحدى الجامعات المصرية. 

لمست من خلال كلام الدكتور المهندس ميلا إلى العيش فِى مدينة الشيخ زايد، التِى يعجب بها لكنه للأسف لم يستطع تحقيق رغبة العيش فيها. وفاجأنِى السبب الذِى ذكره زميل الرحلة. 

إذ قال إن راتبه لن يفِى بمتطلبات الحياة هناك من حيث السكن والمعيشة اليومية والترفيه.

وأثار كلامه غريزة حب الاستطلاع لدىّ فتجرأت وقلت له فِى حياء:

– أنت أستاذ جامعِى، ورواتب الكادر الجامعِى – بحسب معلوماتي – زادت كثيرا بعد ثورة ٢٠١١.

فرد بنبرة حزن:

– يا سيدِى راتبِى لا يتجاوز السبعة آلاف جنيه مصرِى فِى الشهر …

وهنا تذكرت عم حسن السائق الذِى يعمل لدى أحد أصدقائِى.

وما ذكرنِى بعم حسن، وهو رجل في بدايات عقده الخامس، هو الراتب الذِى يتقاضاه شهريا. وهو يعمل سائقا لدى هذا الصديق الذي يعيش ويعمل في مدينة الشيخ زايد، وقد أراد أن يوفر لزوجته سائقا يساعدها فِى مشاويرها اليومية بين مدرسة الأطفال والسوق وزيارات الأصدقاء.

ولم يحصّل عم حسن إلا قسطا يسيرا من التعليم، لكنه لماح وحاضر البديهة، وهادئ الطباع. ولعل هذا ما دفع صديقِى إلى توظيفه لديه مقابل ستة آلاف وخمسمئة جنيه مصري شهريا.

الشيخ زايد

لا أستطيع مقارنة حياة الأستاذ الجامعِى وما صرفه من وقت في تحصيل العلم، ولا ما ينفقه على شؤونه جميعا، بحياة عم حسن ونفقاته. 

لكنِى أستطيع أن أقول إن مرتب عم حسن، الذي يقارب مرتب الأستاذ الجامعِى، مرتب سخِى جدا بالنسبة إليه وإلى طبيعة حياته ونظرة الناس له.

وكيف نقارن نفقات أستاذ جامعي تفرض عليه علاقاته، وظروف عمله، والطبقة الاجتماعية التي ينتمِى إليها نمطا مختلفا تماما عن نمط حياة عم حسن؟ 

ويصبح مرتب الأستاذ الجامعي مع نمط معيشته أقل قدرا من حقيقته. بينما يظل مرتب عم حسن أكبر من النفقات التي تفرضها عليه طبيعة عيشه.

وقد لا ينتبه بعضنا إلى أن عم حسن يتمتع، علاوة على راتبه الشهري،  بميزة لا يمكن أن ينالها الأستاذ الجامعي، ألا وهي نظرة الناس له، باعتباره سائقا. 

فقد يغدق عليه مالك السيارة، أو زوجته أو أقاربهما، بعض المال في بعض المناسبات، وربما يمنحونه أحيانا بقشيشا إن كلفوه بشراء شيء لهم فلا يجد حرجا في قبوله.

أما الأستاذ الجامعِى، فظاهر حاله قد يخفِى معاناة لا يدركها إلا من ذاقها، وقد كنت واحدا من أفراد هذا السلك. 

وهنا أذكر موقفا حدث معي حينما كنت مدرسا مساعدا في جامعة عين شمس، وكنت أعمل في كنترول الامتحانات في نهاية العام الدراسي، وكانت النتيجة على وشك الظهور. وكان الطلاب يختلسون الفرصة ليأتونا راجين أن نبلغهم بالنتيجة قبل إعلانها.

وأشفقت على طالبة منهم، طلبت منِى نتيجتها. ولما أبلغتها بنجاحها، ما كان منها إلا أن دست يدها فِى جيبها وأعطتنِى ثلاثة جنيهات ”حلاوة“ النجاح.

لكنِى رفضت ”الحلاوة“ دون أن أنهرها، نظرا للسلك الذِى أنتمِى إليه. بيد أنِى تعلمت من هذا الموقف كيف لا ينسى المصريون البسطاء كرمهم مهما كان وضعهم، خاصة فِى ساعات الفرح. 

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.