في الذكاء الإلكتروني وكيف نصفه

الذكاء الإلكتروني

كنت قد طرحت على متابعي صفحتي على فيسبوك سؤالا عن أي من التعبيرين الآتيين يفضلون صفة للذكاء غير البشري، الذي أخذت تتداول الحديث عنه قبل أشهر مواقع الإنترنت: “الذكاء الصناعي” أم “الذكاء الاصطناعي”. وتلقيت عددا من التعليقات سأعرض لخلاصتها في هذه المقالة وأدلي برأيي.
كان يهمني من وراء طرح السؤال سؤالي عن تعبيرَيْ ”الذكاء الصناعي“ و“الذكاء الاصطناعي“ وأيهما أفضل، كان يهمني أن أعرف ما سيختاره المعلقون، لكني كنت أتطلع أكثر إلى معرفة السبب وراء كل اختيار.

وأراح قلة من المعلقين أنفسهم فحددوا اختيارهم ولم يقدموا تبريرا له.

أما التعبير الذي اختاره أكثر المعلقين فكان ”الذكاء الاصطناعي“

ثم تلاه في الترتيب ”الذكاء الصناعي“، وكان هناك اقتراحات بتعبيرات أخرى بديلة سأتحدث عنها.

لماذا ”اصطناعي“؟

أما بالنسبة إلى المبررات التي قدمها بعض المعلقين فأبدأ بما قاله من فضلوا استخدام تعبير ”الذكاء الاصطناعي“.

إذ بنوا تفضيلهم على أن الآلة تصطنعه، وأن الاصطناع يكون للأمور غير المادية، والذكاء غير مادي. واستخدام تعبير اصطناعي، في رأيهم، فيه أيضا نفي للذكاء عن الآلة، ووسمها بتظاهر الذكاء، وهذا ما تفيده صيغة اصطنع، لأنه بالتأكيد مصطنع، وغير حقيقي وغير طبيعي ومتكلف.

لماذا ”صناعي“؟
أما من اختاروا تعبير ”الذكاء الصناعي“، فكان تبريرهم مبنيا على أنه ذكاء مبرمج، أي مصنع من عبارات برمجة ويعتمد على ”قاعدة بيانات“. وهو أيضا نتاج آلة صناعية. ويرى أصحاب هذا الخيار أن الاصطناع ليس من خصائص الآلات، بل من صفات البشر، وهذا النوع من الذكاء نتاج آلة، ولا معنى هنا لذكاء مصطنع، في رأيهم.

الذكاء الآلي

ورفض فريق ثالث استخدام كلا التعبيرين ”اصطناعي“ أو ”صناعي“، مقترحا إما ذكاء ”مصنّع“، وإما ذكاء ”آلي“، وإما ذكاء ”غير بشري“.

وقبل أن أعرض رأيي أود أن أقول إن هذا الموضوع يمكن النظر إليه من عدة زوايا:

من زاوية المصطلح في الإنجليزية وترجمته إلى العربية
من الناحية اللغوية، خاصة الصيغ الصرفية مثل صيغة ”فعل“ و”افتعل“
ومن ناحية نسبة شيوع المصطلح
من ناحية طبيعته وما مدى قوة العنصر البشري فيه

١- فمن حيث المصطلح الإنجليزي (artificial intelligence) وترجمته، دفعت كلمة ”artificial“ بعضنا – ربما تلقائيا – إلى اختيار المقابل العربي المتداول، ”اصطناعي“، دون تفكير في دلالة التعبير الإنجليزي برمته، وطبيعة الذكاء ذاته وكيف يتم. وهذا في رأيي نهج غير قويم.

٢- أما من آثر النظر إلى التركيب من وجهة النظر اللغوية، خاصة فيما يتعلق بالصيغ الصرفية، فقد لاحظوا فرقا في الاستخدام بين صيغة ”صنع = (فَعَل) ومصدرها صِناعة“، وصيغة ”اصطنع = (افتعل) ومصدرها اصطناع“، التي تدل على الجهد والمبالغة في أداء الفعل، والتكلف فيه أحيانا. وهذا يعني وجود فرق صرفي بين تعبيري ”صناعي“ و”اصطناعي“.

وربما يدعم هذا الفرق من اختاروا تعبير ”الذكاء الاصطناعي“، لأنه نتاج آلة أو جهاز كمپيوتر، وليس نتاج جهد بشري طبيعي.

لكنني يجب أن أنبه هنا إلى أن في ”صناعي“ إشارة أيضا إلى (الصُنع)، و(الضَنْعَة)، و(الصناعة)، وجميعها تشير ضمنيا إلى الآلة أو جهاز الكمپيوتر، وإلى عنصر الجهد البشري المبذول.

وكلمة ”صناعي“ في تعبير ”الذكاء الصناعي“ ليست – في رأيي – ترجمة لكلمة (industrial) الإنجليزية، كما ظن بعض المعلقين. ولكنها تنتسب إلى (الصَنْعَة) و(الصُنْع). ولعل الكلمة الإنجليزية الأقرب إلى هذا الجذر في العربية هي فعل (fabricate)، أي يصنع.

وقد يكون من الأنسب في هذا المقام أن نطلق على (artificial intelligence) الذكاء المُصنّع أو المصنوع.

وأود أن أذيل ذلك بإشارة سريعة إلى كلمة ”صناعة“ في العربية. فهي كلمة قديمة عرفها التراث الأدبي العربي، قبل عصر الصناعة في أوروبا. فمن يقرأ ذلك التراث سيجد حديثا عن ”الصَنْعة“، و”الصناعة“ في الشعر والنثر، والشعر ”المصنوع“.

وسيجد أيضا كتبا دُبجت تحدّث فيها مؤلفوها عن ذلك. ومن هذه مثلا كتاب (العمدة في صناعة الشعر ونقده) لابن رشيق القيرواني، وكتاب (الممتع في صنعة الشعر) لعبد الكريم النهشلي القيرواني، و(كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر) لأبي هلال العسكري.

وفي ضوء هذا المعنى الأدبي للصناعة والصنعة، لا أجد غضاضة أبدا في استخدام تعبير ”الذكاء الصناعي“.

وما زالت كلمة ”الصناعي“ مستخدمة وبنسب تكرار أكثر من ”اصطناعي“، بحسب محرك جوجل للبحث، في تعبيرات مثل:
الحرير الصناعي
التنفس الصناعي
القمر الصناعي

٣- وذِكْر محرك جوجل للبحث يفضي بنا إلى النقطة الثالثة، وهي النظر إلى الكلمات أو التعبيرات بحسب نسبة شيوعها، فما كان أكثر شيوعا في الإنترنت تبنيناه، وما لم يكن أغفلناه.

وهذه مسألة تتذرع بها شبكات الأخبار عند اختيار ”الكلمات الافتتاحية“ في عناوينها. ووسيلتها في ذلك محرك ”جوجل“ للبحث، الذي يعتمد في عملياته برمتها على الذكاء الآلي. ولا دخل لجوجل بنسبة الشيوع، فما هو إلا راصد يلخص لنا ما صاغه الكُتّاب والصحفيون ومستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي ممن يكتبون كل يوم على شبكة الإنترنت، ويقدمه لنا مصحوبا بالأرقام.

ولكن جوجل، خلال بحثه، لا يعي الخطأ من الصواب عند تحديد نسب الشيوع.

ودفعت مسألة نسبة الشيوع تلك بعض المواقع الإخبارية إلى تبني كلمة ”سوريا“ بهذه الصيغة الكتابية اسما للدولة السورية، لأن جوجل ذكر أنها أكثر تكرارا من حيث الاستخدام في الإنترنت من صيغة ”سورية“ التي اتخذتها الحكومة اسما رسميا للدولة. وتلجأ تلك المواقع إلى جوجل عند كتابة عناوينها لأنها تريد لنفسها الانتشار.

وهكذا يمكن القول إن توصل جوجل مثلا إلى أن ”اصطناعي“ أكثر شيوعا من ”صناعي“، لا يعني أبدا أن الأولى أصوب من الثانية، أو أن الثانية خطأ ينبغي لنا تحاشيه. فمسألة الصواب والخطأ لا يحددها محرك البحث، ولا الذكاء الآلي، بل يحددها الباحثون المتخصصون.

٤- ويمكن النظر إلى التعبيرين: (الذكاء الصناعي) و(الذكاء الاصطناعي) من ناحية طبيعة هذا الذكاء الذي تولده الآلة، ومدى تدخل العامل البشري فيه.

إذ لا يعدو هذا الذكاء إلا أن يكون نتاج برنامج كمبيوتر كتبه مهندس برمجيات بشري، بغض النظر عن درجة تقدم هذا البرنامج في مجال علم الحاسوب، ليبحث ويفتش بسرعة فائقة في سجلات المعلومات المنشورة على شبكة الإنترنت، إما ردا عن سؤال بعينه بشأن معلومة بذاتها، وإما ليصوغ مقالة، أو قصة، أو مسرحية، أو ليرسم لوحة، أو ليؤلف مقطوعة موسيقية، أو ليحل معضلة، أو ليترجم نصا، أو ليصحح آخر، أو حتى ليحاكي صفات صوت بشري وينطقه بما لم يخطر على باله من قبل، أو غيره وغيره.

هذه الإمكانات جميعا صاغها مهندس في برنامج في قواعد وتعليمات يلتزم بها الكمپيوتر وينفذها بحرفية وبسرعة تفوق خيال المهندس والبشر جميعا.

فهذا الذكاء الآلي جله في الحقيقة بشري لأن من كتب البرنامج إنسان، والمعلومات التي يفتش فيها الكمپيوتر ويعالجها خطتها أيضا أياد بشرية. ولذلك فمن الأنسب أن نقول إنه ذكاء آلي مصنوع.

وخلاصة القول هي أن النهج الصحيح عند ترجمة مصطلح (artificial intelligence) هو ألا نقيد أنفسنا بالتركيب الإنجليزي، وألا نظل أسرى كلمة (artificial)، بل أن نفكر في طبيعة هذا الذكاء وكيف يحدث، وفي العوامل التي تتحكم فيه.

وبعد التمعن في التعليقات التي وصلتني خلصت إلى أن أنسب مقابل عربي للتعبير الإنجليزي هو ”الذكاء الآلي“، أو ”الذكاء الإلكتروني“، لأنه نتاج آلة أو جهاز كمپيوتر. ويجب هنا أن أذكر أننا نستخدم في هذا المجال أيضا تعبير ”الترجمة الآلية“ ترجمة للتعبير الإنجليزي (machine translation).

ويمكن أيضا أن أقترح ”الذكاء المصنّع“، أو ”الذكاء المصنوع“.

ولا يعني هذا تخطئة التعبيرين الآخرين الشائعين: ”الذكاء الاصطناعي“، و”الذكاء الصناعي“، اللذين دار عليهما هذا الحديث كله.

للمشاركة على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البحث

محمد العشيري

عملت محاضرًا في اللغة والثقافة العربية في جامعة برمنجهام البريطانية. درَستُ علم الأصوات اللغوية وعلم اللغة وتخصصت فيهما، ثم درَّستهما فيما بعد. وتشمل مجالات اهتمامي علوم اللغة العربية، والخطاب الإسلامي، واللغة في وسائل الإعلام. عملت أيضًا في جامعة وستمنستر في لندن، وجامعة عين شمس المصرية في القاهرة. وعملت مذيعا ومقدم ومعد برامج في هيئة الإذاعة البريطانية. من بين مؤلفاتي: “أصوات التلاوة في مصر: دراسة صوتية، و“عربية القرآن: مقدمة قصيرة”، و”كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية لأبي حاتم الرازي: دراسة لغوية”. ونشرت مجموعة قصصية تحت عنوان “حرم المرحوم” وكتبا أخرى.